لم تكد تمضي عشرة أيام على تسميته وزيراً للثقافة في الحكومة المصرية الجديدة التي شكّلت بعد نشوب «انتفاضة» ميدان التحرير، حتى أعلن جابر عصفور استقالته منها متذرعاً بما سماه «أسباباً صحية». لكن هذه الذريعة المعلنة بدت تخفي أسباباً أخرى غير «صحية»، لم يشأ المفكر التنويري أن يعلنها الآن، في الظرف العصيب الذي تشهده مصر، مؤثراً أن يتناولها لاحقاً، كما قال ل «الحياة» في اتصال هاتفي معه في منزله. عاد عصفور الى منزله والى موقعه كأستاذ للأدب في جامعة القاهرة بعدما تخلّى عن حقيبة الثقافة في الوزارة وعن منصبه كأمين عام للمجلس القومي للترجمة: «لم تعد لي أي علاقة بوزارة الثقافة، أنا الآن أستاذ في الجامعة التي لا تنتمي الى هذه الوزارة»، كما قال عصفور، متأثراً بالخيبة التي مُني بها في قبوله تسلّم حقيبة الثقافة. كان جابر عصفور يعرف جيداً أنه مقبل على مغامرة صعبة ومجهولة العواقب، فتسلّمُ حقيبة الثقافة في حكومة موقتة افترضتها الظروف الراهنة ليس بالأمر السهل. ومثل هذا المنصب في مثل هذه الحكومة قد يعرّض صاحبه لحملة من الاتهامات والتشكيك. وهذا ما حصل فعلاً، فالمقالات والبيانات التي تعرّضت لجابر عصفور، نقداً واتهاماً، كانت كثيرة. وكان على عصفور أن يرد عليها ردّاً حاسماً ونهائياً تمثل في الاستقالة. لكن جابر، كما صرح ل «الحياة»، لم يستقل نزولاً عند رغبة المحتجين ولا خوفاً من حملاتهم ضدّه بل «لأنني أصبت بالخيبة داخل الوزارة». وأضاف: «عندما عرض عليّ المنصب وافقت وفي ظني أن هذه الحكومة ستكون حكومة إنقاذ وطني، وكان شرطي ألا أجلس الى طاولة واحدة مع وزير الداخلية السابق حبيب العدلي الذي كان وراء الاعتداء على الشباب المتظاهرين. كنت أطمح من خلال هذا المنصب الى الانفتاح على المتظاهرين ولا سيما الشباب والى محاورتهم جدّياًَ والأخذ بآرائهم، لكنّني فوجئت كثيراً بأن هذه الحكومة ليست حكومة ائتلاف ولا انقاذ وطني بل هي حكومة الحزب الوطني. فالعناصر القديمة التي أعاثت الفساد في البلاد ما زالت موجودة والعقلية هي نفسها. وهذا ما دفعني الى الاستقالة بسرعة». كان جابر عصفور يظن أنه في تسلمه حقيبة الثقافة في هذه الحكومة الطارئة يستطيع أن يساهم في إحداث تبديل ما في النهج الثقافي للسلطة وفي جعل الثقافة منطلقاً مهماً للتغيير. ويقول في هذا الصدد: «هذا ما لم ينتبه له المثقفون المصريون والعرب الذين هاجموني، والكثير منهم أصدقائي. كان عليهم أن ينتظروا، فهم يثقون بي ويعلمون أي دور يمكن أن أؤديه. لكن البؤس أن فيروس الديكتاتورية انتقل من عالم السياسة الى عالم الثقافة. فراح المثقفون يطلقون التهم تخويناً وهجاء». ويرى جابر ان المثقفين المصريين والعرب الذين ينتمي هو اليهم، يحتاجون الى الاعتراف بحق الآخر في الاختلاف والى الحوار والنقاش بعيداً عن الشتم والقدح وسواهما. وقال: «لننتهز هذه اليقظة التي أحدثتها فينا ثورة الشباب والشعب كي نراجع أنفسنا ونتخلى عن الآثار التي تركتها فينا الديكتاتورية السياسية ونؤمن بضرورة الاختلاف وبالحاجة الى الديموقراطية الحقيقية». لم يكن انضمام جابر عصفور الى الحكومة الانتقالية خطوة ضدّ انتفاضة الشباب، بل رأى فيه مبادرة شخصية لاستيعاب هذه الانتفاضة من الداخل، لكنّ آماله خابت إزاء تحجّر السلطة. ويقول: «ان حركة 25 يناير هي أهم صحوة تشهدها مصر في تاريخها الحديث، انها صحوة مصر الحقيقية وثورتها الطامحة الى التغيير. والتغيير آتٍ لا محالة. ومصر ما بعد الانتفاضة لن تكون مصر ما قبلها، بل ان العالم العربي ما بعد الانتفاضة ليس ما قبلها». لماذا لم يرفق جابر عصفور استقالته ببيان يوضح فيه أبعاد هذه الاستقالة؟ يقول رداً على هذا السؤال: «اعتقد ان الظرف الآن ليس مؤاتياً للبيانات. استقلت بلا ضوضاء ولا بيان. لكنني سأكتب لاحقاً في «الحياة» عن هذه التجربة القصيرة التي «انتهت بالخيبة».