عينا مريم السوداوان تفحصان، خجلتين ومترددتين، زوايا المقهى الذي يجمعنا في قلب طهران. وما ان جلست حتى سحبت بحركة آلية، بطارية تلفونها النقال، ودفنت جهازها في قعر حقيبة اليد، وأبعدت هذه الى طرف المقعد الثاني بجنب مقعدها. وبدا أن الطالبة الشابة تخففت من حضور المراقبة الملح، فاعتدلت في جلستها، واستقامت، وشرعت في رواية كل ما يثقل على قلبها: كيف أوقفت في تظاهرة احتجاج على نتائج الانتخابات الرئاسية، وكيف اعتقلت، و «الاعترافات» بمحاولة قلب النظام التي أجبرت عليها تحت تهديد الاغتصاب، واطلاق سراحها المشروط منذ وقت قريب، واضطرارها الى رهن البيت العائلي... وهي نقشت على الخاتم الذي شكلته بمعطفها عبارة «ولسوف (نعطيك) فترضى». والرجاء الذي تنم به العبارة الفارسية يخالف الاحباط الظاهر في قسمات الوجه والشفتين المرتجفتين. «حياتنا ليست حياة بشر، انها فتات حياة باقية»، تقول مريم، وهي تشير بحركة الرأس الى شلة فتيات متحلقة حول طاولة قريبة في المقهى. ووجوه الفتيات أليفة، وتذكر بتلك التي رآها الناس في أنحاء العالم في اثناء الحملة الانتخابية الرئاسية بإيران، في أواخر ربيع 2009. والوجوه الخائفة والنظرات الساهمة، مرآة ما خلفه في النفوس تحطيم الحلم بالتغيير بواسطة العنف والقتل. ويلاحظ الزائر، على رغم هذا، اللون الاخضر، لون المعارضة، في رباطات الاحذية، واقراط الحلق المتدلية، والاغطية على الرؤوس. وفي أثناء زيارة اولى الى ايران دامت اسبوعاً، بعد غياب سنة ونصف السنة، ورأيت العائلة، وترددت على الاصدقاء في غضونها، طالعني على الدوام مزيج الاحباط والعزيمة على الوجوه وفي كلام من التقيتهم وحادثتهم. فوراء حجاب الخوف، وتحت رماده، يعسُّ جمر الاحتجاج، ويغالب الانطفاء. والحق أن المتطرفين حاصروا آخر حلقات المناقشة، وخنقوها، وأسكتوا الاحزاب السياسية والجمعيات غير الحكومية، ومدارج الجامعات وندواتها. ومجالس العزاء الحسينية، قبل أسابيع قليلة، لم يسع المعارضين، هذه السنة، التذرع بها الى عقد التجمعات. فقوى الامن كانت بالمرصاد، وطوقت كل من اشتبهت في نيته الانضمام الى آخر، وعقد حلقة في قلب المدينة. والى اليوم يقبع المئات من المعارضين والمحتجين، طلاباً ومحامين على وجه الخصوص، وراء قضباء السجون والمعتقلات. ولا تستثنى البعثات الديبلوماسية من المراقبة والملاحقة. وقبل أيام قليلة، كادت دعوة الى حفلة موسيقية تراثية، في حرم السفارة الفرنسية، أن تتسبب في أزمة. فأحد المخبرين ضرب مستشار السفارة الثاني حين حاول الحؤول دون اعتقال بعض المدعوين. والصحافة لم تكن يوماً مقيدة على نحو ما هي عليه اليوم. ويقول احد المراسلين الايرانيين أن المراقبة كانت تقتصر على «النصيحة» بترك التطرق الى هذا الموضوع أو ذاك، ولكنها اليوم تملي على الصحافيين ما عليهم كتابته. وطلب موظفو الرقابة الى صحيفة المراسل الاقلاع عن محاورة وجوه المعارضة، مير حسين موسوي، ومهدي كروبي، والرئيس الاصلاحي السابق محمد خاتمي، المتهمين بإشعال «الفتنة»، والمهددين بالتجريم القضائي. ويُدعى الصحافيون، من وجه آخر، الى الاحتفاء ب «الانجازات النووية»، و «الحماسة الشعبية لتقليص دعم المحروقات». وعلى خلاف المزاعم الحكومية الرسمية، الايرانيون لا يجمعون على السياستين هاتين. ولا ريب في أن الرقابة والتوجيه الحديديين يختبران فاعليتهما في حقل السياسة الاقتصادية وميدانها. ويقول أحد السواقين: «مهما حاولت حكومة أحمدي نجاد تجميل زيادة سعر البنزين في المحطات، وتحويل الزيادة مساعدات اجتماعية في الحسابات المصرفية، فلن تطعم الزيادة عائلتي». وارتفاع الاسعار، تحت وطأة الازمة الاقتصادية العالمية والعقوبات الدولية معاً، ملموس النتائج، ويتعاظم أثره في السلع كلها، سلعة بعد سلعة. وتجهر موظفة في احدى الصيدليات خيبتها من القطيعة بين ايران وبين العالم، ومن دبيب المجاعة والعوز، جراء «التقدم العلمي» والنووي الذي يقول أهل النظام أنهم يدافعون عن حق ايران فيه. والموظفة هذه التقيتها في مقطورة مترو الانفاق على الخط المتوجه الى جنوبطهران، حيث الاحياء الشعبية. وهي تقول إن الانتقال بالمترو وحده في متناولها، شأن الجموع التي تتكاثر في محطات الخط الجنوبي، وتنوء بها العربات. وسمع بعض جيران الموظفة من الركاب ما قالته أو أسرت به. فعلا صوت امرأة غاضبة تحمل ملابس نسائية داخلية «صنعت في الصين»: «يمنعون علينا التظاهر والاكل والتنفس». والتجارة الجوالة، على شاكلة ما تمارس المرأة الغاضبة، هي ملجأ العائلات المحتاجة التي يعجز معيلها عن سداد ايجار المنزل. وهي تقوم مقام عائد المعيل حين لا يعمل رب الاسرة، البطال اضطراراً. وزوج المرأة الجوالة، وهو كان يعمل في الاستيراد والتصدير، اضطر الى غلق محله حين التزم زبائنه الاوروبيون العقوبات، وتخلوا عن عملهم بإيران. وتلثمت المرأة بعد أن أتمت كلامها بلثام من قماش أبيض، تفادياً لتلوث الجو. وبلغ التلوث في طهران، في الاشهر الاخيرة، ذرى لم يبلغها من قبل، ما حمل السكان، أمواجاً، على الركض الى المستشفيات، وطلب الوقاية والعلاج. وتعزو الاشاعات تعاظم التلوث الى المحروقات الفاسدة التي توزعها حكومة احمدي نجاد على المحطات، وتوهم بواسطتها المستهلكين الايرانيين بتوافر البنزين على رغم العقوبات الدولية. ويعلو صوت سائق عربة المترو في المذياع: «محطة 15 خورداد». وينزل الى المحطة الركاب القاصدون بازار طهران، هذه المتاهة الكبيرة والممتلئة بالمحال وأصناف السلع. والاحباط في البازار لا يقل عنه في مرافق طهران الاخرى. «مبيعاتي تتقلص يوماً بعد يوم»، يقول مهدي، وهو تاجر سجاد. ولا يلبث أن يحمَّل «السياسة الاقتصادية المفتعلة التي توزع بعض دولارات النفط على قاعدة النظام وعلى عوائل ميليشيا الباسيجيين وأهل الريف، على حساب الطبقة المتوسطة»، المسؤولية عن الركود الاقتصادي العام. وزبائن مهدي هم من الطبقة الوسطى التي يخنقها النظام. وأما الشطر الآخر من زبائنه، وهم السياح والايرانيون المقيمون في الخارج، فهجروا البلد بدورهم. «أنا لا ألومهم، يقول صاحب التجارة الكاسدة، فعندما يعتقل بلد متنزهين أميركيين أو صحافيين ألماناً، انتقاماً، فلن يشتهي السياح الاجانب زيارة البلد». ويقترب جار مهدي من حلقة الحديث الصغيرة. ولا يكتم أنه اقترع في 2009 لمن زكاه المرشد، أي أحمدي نجاد. ولكنه، اليوم، يستحي من اقتراعه: «ما هو هذا النظام الذي يقتل أبناءه، ويرسل مال الايرانيين الى حماس وحزب الله؟» ويعقب باحث اجتماعي على روايتي ما سمعته ورأيته في البازار، فيقول: «نجح النظام في استعادة السيطرة على الشارع بالقوة، ولكن التذمر الاجتماعي لم يكن يوماً صارخاً على هذا القدر». ولا يتورع المحافظون أنفسهم عن نشر الغسيل الوسخ على الملأ. والقرينة على هذا سلسلة الاقالات، وهي أصابت منوشهر متقي وزير الخارجية السابق، في صفوف بعض كبار المسؤولين والموظفين. وبعض أنصار النظام في مدينة مشهد، يطرحون الصوت، وينذرون الحكومة بقرب افلاسهم إذا لم تفك الطوق الاجنبي عن اعناق الايرانيين. ومشهد هي مزار شيعي كبير وعتبة مقدسة. ولكن زوارها يتناقصون. وبعض الرحلات الى مرقد الامام الرضا ألغيت، وبعضها الآخر ينقل جزءاً قليلاً من ركاب الحجوزات. وتختم مريم، الطالبة، حديثها بالقول: «مستقبلنا غائم مثل الغيمة الملوثة التي تظلل طهران». * مراسلة، عن «لوفيغارو» الفرنسية، 3/2/2011، اعداد منال نحاس