عبر الطريق الذي سلكته السيارة الوحيدة التي عثرت عليها متوجهة إلى ميدان الجيزة، كان الهواء مشبعاً برائحة القنابل المسيلة للدموع بالقدر الكافي الذي دفع جميع الركاب إلى السعال المستمر. أول المتاريس التي اعترضتنا كان أمام الباب الرئيس لجامعة القاهرة، ما اضطر السائق إلى الالتفاف عبر شارع جانبي آخر من أجل الوصول إلى الميدان. لم يكن في مقدوري تخيل ما يحدث بالفعل هناك، فعلى البعد كانت تُسمع طلقات القنابل والأعيرة في شكل مخيف دفع السائق إلى التوقف فاضطررت إلى المواصلة سيراً على الأقدام. في الأفق كانت تلوح سحابات من الدخان الكثيف وتسمع صيحات هادرة. استطعتُ الوصول إلى قلب الحدث بصعوبة لأرى مشهداً عجيباً، فثمة العشرات من الجنود وسيارات الأمن مشتبكة في معركة حقيقية مع المتظاهرين. القنابل المسيلة للدموع كانت تطلق بكثافة لم أشهدها خلال الأيام التي تلت ثورة الغضب، مئات من الشباب يعتلون الجسور المحيطة بالميدان ويقذفون الجنود بالحجارة، ويرد الجنود بدورهم بإطلاق القنابل والأعيرة المطاطية. بدا الجنود والضباط في حال ارتباك وتخبّط من الأعداد الغفيرة للناس التي تظهر فلولها من الشوارع الجانبية المطلة على ميدان الجيزة. لحظات من الهدوء كانت تمر، يتقدم خلالها أحد الشباب نحو أفراد الأمن طالباً التوقف عن إطلاق الرصاص والقنابل والسماح بالمرور مقابل التوقف عن رميهم بالحجارة. يتراجع أفراد الأمن قليلاً فتعلو أصوات مرعبة جراء قرع الحجارة بأسوار الجسور المعدنية. صوت كان يثير الرعب والحماسة في القلوب في آن معاً، ابتكره المتظاهرون للتغطية على تلك الأصوات التخويفية التي يأتي بها الآلاف من أفراد الأمن، وما أن تمر لحظات حتى يتجدد الاشتباك مرة أخرى، ظلت الأمور على هذا الحال لأكثر من ساعة، وفجأة ومن دون توقع تراجع أفراد الأمن وفتحت المتاريس أمام المتظاهرين، وبدأ الآلاف التدفق عبر شارع الجيزة الرئيس، أعداد مهولة، شباب وأطفال وكهول، سيدات بيوت، وبنات صغيرات، كان الجميع عاقد العزم على التوجه إلى ميدان التحرير في قلب القاهرة. سارت الجموع غفيرة وهادرة بالصيحات والهتافات المطالبة بإسقاط النظام. صيحات لا تتوقف. جموع تستدعي جموعاً. ووقف رجل كان يصيح في حماسة مشيراً إلى الناس الذين يُشاهدون في الشرفات: «انزلوا من أجل مستقبل أبنائكم... انزلوا، انزلوا». على جانب الطريق كانت هناك سيدة عجوز توزع زجاجات من المياه على الناس وهي تزغرد، لمحت بين الجموع أيضاً رجل دين مسيحياً إلى جوار رجل يرتدي الزي الأزهري، وفي الطريق ثمة مبنى لكنيسة، حين كانت الجماهير تعبر أمامه كان الهتاف يتغير من تلقاء نفسه إلى «عاش الهلال مع الصليب»، وثمة وجوه لنساء كانت تطل من خلف النوافذ مشيرة بالتحية إلى هؤلاء العابرين. خلف سور حديقة الحيوان كانت هناك مجموعة من الفتيات الصغيرات يحيون الناس وهم يرددون الهتافات معهم. السيارات القليلة التي كانت تستطيع العبور في الجهة المقابلة كان كل من فيها يلوح بإشارات النصر، والكثير منهم كان يتوقف ليهتف معهم. عبرت الجموع على المبنى الذي يرتفع فوقه العلم الإسرائيلي، حيث توجد السفارة الإسرائيلية في القاهرة، حينها كانت الهتافات تتغير منددة بوجودها، غير أنها لم تتوقف أمامها كثيراً، فالهدف كان واحداً، وكأن ثمة اتفاقاً ضمنياً على مطلب واحد دون غيره. «الشعب يريد إسقاط النظام»، هكذا كان الهتاف مدوياً وهائلاً يصل إلى الأعماق ويهز شيئاً كريهاً يختبئ بين الضلوع، إنه الخوف الذي لم يعد له مكان. خلال هذا التقدم لم يقتلع حجر من مكانه، ولم تدمر واجهة لمحل واحد، وكانت العشرات من المحلات ما زالت مفتوحة، خرج أصحابها لمشاهدة ما يحدث مندهشين ومشاركين بالهتاف، وصلت الجموع إلى الجسر المؤدي إلى جزيرة الزمالك «كوبري الجلاء» وكنت أنا في منتصف هذا السيل الهادر من البشر تقريباً، سرت ما يقرب من خمسة كيلومترات على رغم هذه الإعاقة في ساقي والتي لا تمكنني عادة من السير لمسافات طويلة. حتى الآن لا أصدق أنني سرت كل هذه المسافة. حين اقتربت من نهاية الجسر وعبرت إلى «قصر النيل» كانت الجموع المتقدمة قد تمكنت من الوصول إلى مشارف ميدان التحرير الذي كان يصارع فيه الآلاف من رجال الأمن حشوداً أخرى قادمة من الأنحاء والشوارع الجانبية كافة، على الجسر المؤدي إلى الميدان وقفت سيارتان للجنود خاليتان تماماً، بعد أن فر من فيها إلى الخطوط الأمامية أمام زحف الجماهير. أثناء ذلك كانت سيارات الإسعاف لا تتوقف ذهاباً وإياباً. وعلى رغم هذا لم تستطع ملاحقة كم الإصابات التي حدثت، فقد كان هناك العشرات من الجرحى يتم نقلهم على الأكتاف. - ماذا يحدث هناك؟ كان الجميع يتساءل: - ثمة مجزرة على الجسر. ترد مجموعة من الصبية قادمة من جهة الميدان. المشهد كان سوريالياً إلى حد كبير. فعلى رغم أعداد الجرحى والقتلى في الاتجاه المقابل، إلا أن الناس لم يتوقفوا عن السير نحو هدفهم مطلقاً. ظلت الجموع متقدمة كما هي، والهتاف نفسه مجلجلاً «الشعب يريد إسقاط النظام». لقد استيقظ المارد فجأة ولن يتراجع مرة أخرى. ظل الأمر على هذه الحال حتى جاءت الأخبار من الأمام بأن رجال الأمن فروا والجسر قد فتح. في قلب الميدان انضمت الجموع القادمة من الجيزة إلى غيرها من الجموع الأخرى القادمة من الأنحاء كافة، على البُعد كانت هناك مجموعة كبيرة من الشباب يحوطون المتحف المصري في درع بشري، بينما اختلطت رائحة القنابل المسيلة للدموع بدخان الحريق الذي بدأ يشتعل في هذا المبنى الكبير للحزب الحاكم المطل على ميدان التحرير. تحول الميدان إلى عرس كبير بعد أن امتلأت أطرافه عن آخرها، وفاضت الجموع عبر الشوارع الجانبية بين أضواء الكشافات الملبدة بدخان القنابل. كانت الحرية تظلل الجميع بجناحيها، وتلقي بالتحية على أرواح الشهداء.