«لا يحق لأي حزب سياسي في تونس أن يدعي أنه هو الذي أنجز حركة 14 كانون الثاني (يناير) 2011 التي أدت إلى سقوط الرئيس بن علي. يبدو هذا القول صحيحاً من الناحية الواقعية التي فرضتها الأحداث وأكدها ميدان المعركة على مدى شهر من المواجهة الدامية بين النظام وشباب المدن الغاضب نتيجة البطالة والتهميش والحيف والظلم، لكن في المقابل يكون من عدم الواقعية، بل ومن التبسيط بمكان، أن يظل بعض الفاعلين السياسيين والإعلاميين، يرددون هذا القول في اتجاه تسييسه وتوظيفه المفرط في الجدل السياسي القائم. إذ من غير الممكن أن تظل الأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدني الحاملة والطامحة للمساهمة الجدية والفاعلة في الشأن العمومي، تتفرج على عفوية الجماهير، من دون أخذ المبادرة في تأطيرها على أساس أفكار وبرامج. فلا يمكن أن تنجح الثورة التونسية وتواصل تحقيق أهدافها في ظل غياب مجتمع سياسي ومدني وأطر تدير التنوع والاختلاف الحاصل وتعمل كوسائط بين الفرد والمجتمع من جهة وبين المجتمع والدولة من جهة ثانية. إن العفوية الجماهيرية غير المؤطرة لمرحلة ما بعد 14 كانون الثاني 2011 من الممكن أن تنفتح على احتمالات العنف والعنف المضاد في كل أشكاله المادية والرمزية، وهو أمر في غاية الخطورة لأنه يفتح الطريق أمام عودة الديكتاتورية، وبروزها من جديد ولو بحلة ديموقراطية خادعة تتيح بعض الهامش وتستولي على الهامش الأكبر من الفضاء العمومي، السياسي، والاجتماعي. ولهذا يحتاج الخطاب السياسي في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ تونس المعاصرة إلى إعادة تجديد نفسه وأدواته، في مستوى التنظير والممارسة العملية، ومنه إلى إعادة التفكير في المنطلقات والأسس التي يجب أن تقوم عليها الدولة التونسيةالجديدة في إطار مشروع مجتمعي واضح ومحدد الملامح. وذلك حتى يتقلص وينتهي إرث الدولة المخزنية والتسلطية التي شكلت ملامحها نخب ما بعد الاستقلال، تلك الدولة التي تماهت مع الحزب الواحد واحتكرت لنفسها الفضاء العمومي وقلصت من المساحات الاجتماعية والسياسية التي كان من الممكن أن تساعد على ظهور وانبثاق الفرد المواطن وتشكيل مجتمع قوي. لهذا فالمشروع المجتمعي الحقيقي والرئيسي لتونس ما بعد 14 كانون الثاني 2011 هو التخلص من إرث ثقافة سياسية متخلفة حتى يتسنى إعادة التأسيس من جديد لعقد اجتماعي يعيد التوازن بين الدولة والمجتمع ويدعم قيم المواطنة الفاعلة والإيجابية ويدعم إمكانات الفرد في التمكن من عدد من الرساميل الاقتصادية والثقافية والحقوقية لتكون دعامات تؤسس للرغبة في الاستقلالية، وتطوير قدرة الفعل، والتفكير والعيش، وبالتالي تدعيم حضوره في الفضاء العمومي، ليس على قاعدة الكل والوحدة وإنما على قاعدة الاختلاف والتنوع والمسؤولية، ذلك أن قوة الديموقراطية الرئيسية كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين تكمن تحديداً في «إرادة المواطنين للعمل المسؤول في الحياة العامة، فالذهنية الديمقراطية تكون وعياً جماعياً بينما تقوم الأنظمة السلطوية على تماهي كل امرئ بزعيم من الزعماء أو برمز من الرموز». نحتاج إذاً في المراحل المقبلة إلى التأسيس الجدي للذهنية الديموقراطية لا كشعار وأيديولوجيا سياسية بل كممارسة عملية نحسها ونتحسسها في التفاصيل اليومية للحياة الاجتماعية وتشعرنا أننا نعيش فعلاً في مجتمع متنوع، متعدد تتلاطم فيه العلاقات والتنازعات والتسويات والتراضيات. يمر كل هذا حتماً عبر إعادة الاعتبار للمعرفة بكل ألوانها الفلسفية والسوسيولوجية والتاريخية والفنية إذ لا ديموقراطية حقيقية حين تغيب المعرفة ويتقلص فعل التفكير النقدي ويهيمن السياسي على حساب المعرفي الذي ينمي الطاقة الإبداعية الشخصية للفرد التونسي. بهذا المعنى يصير اليوم من غير الممكن مصادرة الفعل السياسي والمدني باسم «حماية الثورة» ذلك أن الثورات التي لا تحصن بجدل سياسي جدي ويقظة فكرية نقدية من الممكن أن تدير ظهرها للديموقراطية وتفرض وحدة لا يمكن أن تكون سوى ديكتاتورية تتجاوز تنوع المجتمع وتلغي تعدديته.