إذا تجاوزنا الحد الأدنى من الحياة البدائية فإن المطالبة بالاكتفاء الذاتي من أية سلعة أو خدمة، هي إما من قبيل الأقوال الساذجة التي قد يرددها من لا يعرف معناها، أو يرددها صاحب مصلحة للدفاع عن مصلحته. وحتى في أيام الجاهلية في الجزيرة العربية، كانت قريش وربما غيرها، تقوم برحلتين على الأقل في الصيف والشتاء للتجارة وتبادل السلع، والأرجح غير السلع مع أهل اليمن تارة، ومع أهل الشام تارة أخرى. ومن شبه المؤكد أن الشام واليمن كانا بدورهما يجريان تبادلاً تجارياً وغير تجاري مع من يستطيعون الاتصال بهم من بقية عباد الله. ولو ضربنا مثلاً بالصين الحديثة. أي صين دنغ لا صين ماو، والتي تكاد تزرع كل شيء وتصنع كل شيء، ومع ذلك لم تكتف ذاتياً من أية سلعة وهي اليوم أكبر أقطاب التجارة الدولية. وأكبر شكوى ضد الصين من جانب أميركا وأوروبا، هي قدرة الصين المتصاعدة على التصدير. غير أن الصين تستورد كميات متزايدة من النفط ومشتقاته ومن السيارات والطائرات وبرامج الكومبيوتر، وآليات من كل الأنواع، وغيرها وغيرها. لقد تعلم عبقري الصين الحديث دنع هسياو بنغ من تجربة هونغ كونغ. فهذه المدينة لا تملك أية مصادر طبيعية ولم تتمتع يوماً بالحرية السياسية، بمعنى أن سكانها هم من يختارون من يحكمهم. ومنذ تولي الإنكليز حكم هونغ كونغ وإلى يومنا هذا بعد أن عادت الى الصين، وهي وسكانها يتمتعون بحرية اقتصادية وحرية شخصية فردية شبه مطلقة. فلا قيود على أحد من سكان هونغ كونغ فرداً كان أو منشأةً اقتصادية كبيرة كانت أم صغيرة، للتبادل التجاري مع من يشاء من داخل المدينة أو من خارجها، وبيع ما يشاء بما في ذلك خدماته الى أرباب العمل، وشراء ما يشاء إن استطاع شراءه، والسكن حيث ما أراد واستطاع الحصول عليه. ولا دخل لحكومة هونغ كونغ، لا الإنكليزية من قبل ولا الصينية حالياً، بشيء خارج إطار توفير الأمن ووضع أسس جيدة للقضاء، للفصل بين المتقاضين والحكم على المجرمين. إن الوفاء بالعقود من أولى أولويات توظيف حرية الأسواق، ولا بد من وجود سلطة قضائية لتنفيذ العقود ولمقاضاة الغشاشين والمدلّسين. ولما تولى ذلك العبقري الماركسي اسماً لا حقيقة مقاليد حكم ذلك العملاق النائم الحزين (في عام 1980) حاكى تجربة «معمل الرأسمالية» في هونغ كونغ، إن كان لرأسمالية آدم سميث معمل حقيقي لتطبيق أفكاره. ولذلك أدرك دنغ أنه لا بد من وجود حرية اقتصادية شبه مماثلة، وليست مماثلة تماماً لما رآه في مدينة هونغ كونغ الصينية البحتة لغة وحضارة وعادات وتراثاً. وبقية قصة انطلاق الاقتصاد الصيني وتحرره من قيود التخطيط البيروقراطي على كافة المستويات، صارت أمراً معروفاً من الجميع. وكان البروفسور ميلتون فريدمان يضرب مثلاً لطلاب الدراسات العليا في علم الاقتصاد في كل جامعة قيادية يزورها بقلم الرصاص أو «المرسم» أو «المرسمة» للتدليل على خطأ المطالبة بالاكتفاء الذاتي. ومما كان يقوله الدكتور فريدمان: يتكون قلم الرصاص من خشب بداخله معدن «غرافيت» ومن قطعة من المطاط مثبتة على تجويف نحاسي، والخشب مطلي بصباغ. والخشب يأتي من شجرة في مكان ما، ولا بد ممن يقطع الخشب، ولا بد ممن يعده للنقل، ولا بد له من ناقل يأخذه إلى مصنع في الداخل أو في الخارج، ولا بد ممن يوفر له الطلاء ويطليه، ولا بد من استخراج معدن «الغرافيت» من منجم في مكان ما، ثم إعداده ثم نقله الى مكان التصنيع. ولا بد من إحضار المطاط من مكان ما، على الأرجح ماليزيا، ولا بد من إحضار نحاس أو ما يشبه من مكان ما، على الأرجح تشيلي. إذاً من الواضح أن آلاف الناس شاركوا في صناعة ونقل وتجارة القلم الرصاص، وهم من مناطق مختلفة، ومن أديان مختلفة، ولا يعرف بعضهم البعض الآخر. وقد يكون منهم من يكره أو من يحب غيره من المشاركين في توفير القلم الرصاص وبيعه في الأسواق. وخلاصة الموضوع أنه يتعذر استمرار وجود اكتفاء ذاتي من أية سلعة أو خدمة، في أي مجتمع متقدم أو يسعى للتقدم بأكفأ الوسائل. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي