سقف التنازلات التي يستعد النظام في مصر لتقديمها الى المتظاهرين في ميدان التحرير بات معروفاً: لا لسقوط حسني مبارك. لا لتحوّل في اتجاه النظام. لا لانهاء الاعتصام بالقوة. لكن سقف المتظاهرين بات يتأرجح بحسب مصالح كل طرف منهم. لا يزال شعار «الشعب يريد اسقاط النظام» مرفوعاً في الساحات. لكن كلمة «النظام» باتت تعني بالنسبة الى الخليط المحتشد في وسط القاهرة معاني عدة، على رغم ان المقصود بالكلمة نفسها بالغ الوضوح. منهم من يرى ان اسقاط النظام يعني تنحّي الرئيس مبارك. البعض الآخر يرى ان اسقاط النظام يعني اسقاط مبارك ومعه رموز الحكم السابق كلهم، بمن فيهم نائبه المعيّن عمر سليمان ورئيس الحكومة الجديدة احمد شفيق. الفريق الثالث يتجاوز ذلك الى الدعوة الى تغيير هوية النظام ذاته، أي تحالفاته الغربية وعلاقاته الاسرائيلية، وهي للحقيقة دعوة تراهن عليها حشود «الممانعين» خارج الساحة المصرية، الذين يعتبرون معركة ميدان التحرير معركتهم، اكثر مما هي همّ ملحّ لأكثرية الشباب المصري ولأحزابه بمعظم توجهاتها. ذلك ان قليلين في مصر اليوم هم الذين يحلمون بالعودة الى زمن الاحلام الناصرية، في الوقت الذي لم تبقَ من هذه الاحلام على الساحة العربية سوى الخطب الحماسية وانتهازية بعض الحكومات والاحزاب في المنطقة، التي تسرع الى ركوب الموجات الشعبية، طالما ان الاحتجاجات تتحرك خارج شوارعها. نجح النظام المصري في المحافظة على أسسه ثابتة بعد 14 يوماً على الانتفاضة. هذه الاسس تشمل المؤسسة العسكرية والمؤسسات السياسية والاعلامية والاجهزة الامنية. اما الاصلاحات والتغييرات المنوي اجراؤها داخل هذه المؤسسات والاجهزة فهي تجري من داخل النظام، اي انه هو الذي يشرف عليها ويقوم بها. طبعاً هو يقوم بذلك تجاوباً مع التظاهرات والحشود. لكن مجرد كون النظام هو الذي يفعل ذلك يعني ان ما نشهده في مصر ليس «ثورة» بالمعنى المتعارف عليه للثورات، بل هو عملية تجميلية سوف تؤدي بالنتيجة الى اطالة عمر النظام وليس الى سقوطه. ما حمى النظام المصري بالدرجة الاولى هو التفاف مؤسساته من حوله، وبالاخص حول الرمز الاول لهذا النظام، اي حسني مبارك. في حالات اخرى مماثلة كان من السهل ان نشهد تفككاً وزعزعة لهذا الالتفاف. فقد كانت هناك اغراءات كثيرة تدفع الى ذلك، منها الضغط الشعبي الداخلي والاغراءات الخارجية، وفي طليعة هذه الاغراءات تلك التي قدمتها ادارة باراك اوباما في المراحل الاولى من الانتفاضة، من خلال المطالبة بالتغيير «الآن»، والتي كان من شأنها أن تدفع البعض، وخصوصاً اللواء عمر سليمان الى الانقضاض على الكرسي الاول. في مقابل هذا الالتفاف الحكومي والعسكري حول النظام، تحولت انتفاضة ميدان التحرير الى انتفاضات، والمعارضة الى معارضات: منها من هو مستعد للتفاوض حول المخارج، ومنها من هو مصر على البقاء في الميدان حتى ذهاب الرئيس، ومنها من يدفعه ضغط الوضع الاقتصادي والمعيشي الى العودة الى بيته وعمله. هنا ايضاً يسجّل للنظام انتزاع التنازلات. استطاع عمر سليمان ان يدعو الى الحوار مع المعارضين (ومن بينهم «الاخوان») تحت صورة الرئيس حسني مبارك. ولم تكن هناك صورة معبّرة اكثر من تلك: نائب الرئيس يجلس على كرسي يرتفع فوق كراسي الآخرين، ومن فوقه صورة رئيسه الذي يطالب المعارضون بعدم مباشرة الحوار قبل اقصائه! استطاع عمر سليمان واحمد شفيق ان ينتزعا كذلك من المعارضين ادانة للتدخل الخارجي في شؤون مصر، سواء ذلك الذي جاء من القوى الغربية التي شاءت تحديد مواعيد انتقال السلطة، او الذي جاء من القوى الانتهازية الاقليمية التي ارادت استغلال الانتفاضة المصرية وتوظيفها في خدمة اهداف خاصة بها. في نهاية الامر اخذت انتفاضة مصر هوية جديدة باتت واضحة. انها اقل بكثير من ثورة واكثر من حركة اصلاحية. انتفاضة تتم تحت سقف النظام ولا تنقضّ على اتجاهاته والتزاماته. وهي بالنتيجة سوف تكون اقل اثارة لمخاوف الاقليم وأقل تلبية لأماني الانقلابيين.