لن ينسى سكان مدينة جدة ما حصل يوم الأربعاء الأسود في 26 كانون الثاني (يناير) بسهولة. فعروس البحر الأحمر كما تلقب، تعاني من خراب كبير، وهو ما تشير إليه الأرقام المعلنة عن تضرر 50 ألف منزل ومحل تجاري، وتضرر 90 في المئة من شوارع المدينة. ستبقى صورة المدينة المليئة بالوحل والانهيارات تضخ في ذاكرة السكان تلك المأساة التي مروا بها، وربما لن ينسى بعض من فقدوا أعزاءهم وفلذات أكبادهم ما حصل بقية حياتهم. لكن مع عمق النكبة التي لحقت بالميناء الأهم للسعودية، ظهر أيضاً التكاتف الكبير بين السكان، وبرزت سواعد الشباب الذين تطوعوا لإنقاذ الأرواح وتخليص المحاصرين في بيوتهم وسياراتهم. وبدأت فرق المتطوعين الذين نشطوا اجتماعياً على مستويات عدة لإنقاذ المحتجزين وإيواء المتضررين وتأمين المساعدات، والترويج عبر حملات على «فيسبوك» والمجموعات البريدية إلى دعم ضحايا كارثة جدة الثانية. قرر بندر أبو كاشف العمل كمنقذ في كارثة أمطار، بعدما رأى جموعاً من الناس احتجزتهم مياه السيول في منازلهم ومحالهم وسياراتهم. يقول: «خرجنا أنا ومجموعة من أصدقائي لدينا سيارات دفع رباعي في جولة على مدينة جدة، ولم نتخيل أن الوضع سيكون مأسوياً بهذه الدرجة». وحده الإحساس بالواجب دفع أبو كاشف وأصدقاءه إلى العمل على دفع السيارات العالقة في المياه أو مساعدات البعض في الخروج من مياه السيول. ويشير أبو كاشف إلى صعوبات كبيرة واجهتهم، «خصوصاً أولئك الذين كانوا يرفضون أن نساعد زوجاتهم وبناتهم، ويكتفي بطلب دفع سيارته». ويضيف: «مع ارتفاع منسوب المياه في الشوارع، وبخاصة في الأحياء التي دهمتها السيول كانت الأوضاع تزداد سوءاً، لا سيما أن غالبية المحتجزين لديهم ردود فعل ذات طابع هستيري، ما دفعنا لإكمال عملنا في عمليات الإنقاذ من دون توجيه من أحد». اتجه أبو كاشف في اليوم التالي للكارثة إلى مركز التطوع التابع للغرفة التجارية، وسجل اسمه مع عدد من أصدقائه: «غالبيتنا غواصون، وتم توجيهنا للعمل في إنقاذ الأسر التي احتجزت في بيوتها داخل الأحياء المنكوبة الغارقة في المياه، واستطعنا العمل على إنقاذ عدد كبير منهم خصوصاً الذين أمضوا ليلتهم من دون كهرباء». لكن جزاء الإحسان لم يكن إحساناً، إذ فوجئ أبو كاشف بفصله من عمله بعد أسبوع من تطوعه في عمليات الإنقاذ، على رغم تقديمه إجازة للتفرغ للعمل التطوعي. سمر عشماوي جندت نفسها منذ حدوث كارثة جدة الثانية كمتطوعة في مركز التطوع التابع لمركز المعارض في جدة، تقول: «أمضي يومياً في المركز نحو 11 ساعة نعمل خلالها على تصنيف المعونات من الملابس بحسب المقاسات ليتم وضعها داخل علب». وأشارت إلى أن تجربتها في العمل التطوعي أكسبتها عدداً من المهارات، خصوصاً في فنون التواصل مع الآخرين، وتتفق معها إيناس سندي التي ترى أن العمل من دون أجر له مذاق مختلف، وتقول: «جميع الصعوبات والمتاعب تزول عندما نرى الوجوه تبتسم والألسنة تدعو لنا. هذا الحافز يجعلنا نبذل المزيد من الجهد في مساعدة المتضررين». من جانبها، أكدت المشرفة على مركز المعارض التطوعي سارة بغدادي ارتفاع عدد المتطوعين والمتطوعات في كارثة جدة لهذا العام، وتقول: «وصل عدد المتطوعين إلى 1700 في حين وصل عدد المتطوعات 1500، تم توزيعهم في لجان العمل التطوعي داخل المركز، منهم من يقوم بجولات ميدانية وآخرون يعملون على ترتيب وتوزيع المعونات داخل الصناديق وتجهيزها بهدف توزيعها على الأهالي في الأحياء المتضررة». «التطوع» لدعم سكان حي البغدادية (وسط جدة) يحتاج لمواصفات خاصة، فمهارة الغوص شرط أساسي للحصول على إذن من الجهات المختصة للبدء في عمليات إنقاذ المحتجزين داخل الحي بعدما غمرته مياه السيول يوم الأربعاء الأسود. الوضع المأسوي الذي عاشته المدينة دفع عدداً من الشباب الذين يمتلكون مهارات الغوص الى تسجيل أسمائهم كمنقذين في إدارة المركزية للدفاع المدني في المحافظة. وبحسب الأمير سلطان بن فيصل وهو أحد الشباب المتطوعين، فإن عمليات التوجيه وتلقي التعليمات من إدارة الدفاع المدني كانت مباشرة لهم، خصوصاً في الأحياء التي تتطلب عمليات الإنقاذ فيها معدات للغوص وقوارب مطاطية. يقول: «بدأنا في عمليات الإنقاذ مساء يوم الأربعاء، وأعدت فرق من المتخصصين في الغوص والمدربين على الإسعافات الأولية، خصوصاً أن عمليات الإجلاء كانت تتطلب وجود تلك المهارات في المتطوع». وأشار إلى أن عمليات الإنقاذ استمرت يومين كاملين استطاعت الفرق خلالهما إجلاء نحو 280 شخصاً في حي البغدادية الذي غمرته المياه عن بكرة أبيه. وتابع: «كنا نعمل على إجلاء السكان من منازلهم التي غمرتها مياه السيول وتوصيلهم إلى مركز قيادة الدفاع المدني الذي وفر لهم وسائل نقل لنقلهم إلى مركز الإيواء، المتمثلة بالشقق المفروشة داخل الأحياء غير المتضررة». وبحسب الأمير سلطان بن فيصل، فإن عمليات التطوع شملت تبرعات جهات عدة متخصصة في بيع معدات الغوص ومستلزمات الرحلات البحرية من قوارب وخلافه. يقول: «كان لدينا نقص في المعدات عندما بدأت عمليات الإنقاذ، لكن مع تبرعات البعض استطعنا إجلاء السكان في وقت قياسي». لم تقتصر برامج التطوع على عمليات الإنقاذ وعلى امتلاك مهارات معينة، إذ شملت عمليات تنظيف المنازل والمساجد وتقديم المساعدات للأهالي في الأحياء المنكوبة. أحد المتطوعين في «مجموعة تكافل» حسن مظفر قال ل «الحياة»: «عملنا التطوعي بدأ في اليوم الثاني للنكبة، عملنا يوم الأربعاء على تجميع الشبان وأفراد المجموعة عبر مواقع الانترنت». وأضاف: «بعد تجمعنا بدأنا في تحديد مهام الفريق الذي يتبع للجمعيات الخيرية في جدة، وكانت عمليات مسح الأحياء المتضررة أول مهام الفريق». ولفت إلى أن عمليات الحصر يتبعها عمليات أخرى لتنظيف المساكن والمساجد وتهيئتها من جديد لأصحابها، يقول: «عملنا على تقسيم الفريق إلى مجموعات عدة، توجهت كل منها لأحد الأحياء المنكوبة بهدف المساعدة في عمليات التنظيف وإزالة آثار السيول»، مشيراً إلى وجود فرق تطوعية أخرى عملت على توزيع السلال الغذائية وتقديم المساعدات العينية لسكان الأحياء المنكوبة». في السياق ذاته، أوضح رئيس لجنة تنسيق العمل التطوعي، نائب رئيس مجلس إدارة الغرفة التجارية الصناعية في جدة مازن بترجي أن اللجنة التي تضم 1000 متطوع من الشبان والفتيات، «تهدف إلى دعم العمل التطوعي الخيري والمساهمة في نشر ثقافة العمل التطوعي في المجتمع وحض الناس على الإسهام في الأعمال الخيرية بطريقة منظمة إضافة إلى مساندة الحكومة والمؤسسات الاجتماعية في سد فجوة الخدمات المقدمة للمجتمع وفتح آفاق جديدة في مجال العمل التطوعي ومفاهيم العمل التطوعي علاوة على تقديم آليات احترافية لإدارة العمل التطوعي من تخطيط وإدارة وتدريب». وأوضح أن اللجنة تولدت لديها تجربة ثرية في مجال العمل التطوعي، من خلال ما تم في كارثة سيول جدة الأولى، «وستساهم وفي شكل كبير من خلال كوادرها المؤهلة في التعامل مع مثل هذه الحالات إلى جانب الإسهامات الكبيرة من الجمعيات الخيرية ومؤسسات المجتمع المدني». وأشار إلى أن اللجنة «ستحقق نجاحاتها في زرع الطمأنينة وإعادة الحياة لسكان الأحياء المنكوبة التي وصل عددها وفق تقارير الدفاع المدني إلى 23 حياً وكان أكثرها تضرراً أحياء (أم الخير، النخيل، النسيم، بني مالك، الشرفية، الحمراء، غليل، الجامعة، التوفيق، السامر -3 و4، الأجواد، الرويس، الثغر والبلد). وكشف بترجي عن إنشاء اللجنة لمركز معلومات لحصر المتضررين من سيول جدة، يُرتقب أن يستقبل المكالمات والبيانات والمعلومات على رقم موحد، إلى جانب إعداد المعلومات عن المتبرعين والجمعيات الخيرية والمستودع الموجود في مركز جدة الدولي للمنتديات والفعاليات.