متى يصبح المرء جاهزاً لخوض الشأن العام وكشف ذاته أمام الآخرين، وبالتالي توجيه النقد لأعماله، وتحمّل التبعات؟ العمر هنا معيار: «ما زلت صغيراً»، «لا خبرة لك»، «لا تجربة لك»... وعلى هذا إما يهمل وإما يُظهّر بحياء. ريم صالح، التلميذة ابنة السابعة عشرة، قررت أن تكشف نفسها أمام الآخرين، عن سابق إصرار وتصميم. بدأت تعدّ اللوحات لمعرضها «واحد» قبل عام من إقامته، تماماً كما يفعل الرسامون المتمرّسون. والحق أن هذا المعرض هو تجربتها الأولى المكشوفة، ولكن لديها «سوابق». ففي عمر مبكر، مُسّت ريم بشغف الفن التشكيلي. ويقول والدها حنا لمجموعة متحلّقة حول إحدى اللوحات: «وهي صغيرة، كانت، إذا لم تجد مواد تلوين، تستخدم صباغ الأحذية لترسم رسومها». ولعل في ابتسامات الحلقة الصغيرة، استجابة لحكاية الأب، ما يدل عن تقديرهم ذكاء الفتاة التي كانتها، أكثر من انتباههم إلى شغفها المتأصّل فيها. وقد استعانت ريم بأدوات عصرها استعداداً لتجربتها واستمزاجاً للآراء وتلقي التشجيع على خطوتها التي لم تخفِ الصبية أنها أصابتها بالفزع والإثارة، كما عبّرت عن هذه المشاعر صراحة عبر صفحتها في «فيسبوك»، ودعواتها المقتضبة المتكررة إلى الحضور: «باقٍ 7 أيام» ثم 6، ثم 2... ف «اليوم!»، أو «تعالوا احضروا» بنبرة شبابية حيّة. ولإقامة معرض «تجريبي» للعموم، أقامت ريم مدوّنة (بْلوغْ) صارت تغذّيها بالرسوم التي تنجزها. واللافت في تلك المدوّنة، وعنوانها http://saltysbrainflash.blogspot.com، أنها تضم أعمالاً إضافية غير تلك المعروضة، في «واحد»، وتعطي فكرة لا عن براعتها في تنفيذ الموضوع وثبات يدها وحسن اختيار الألوان فحسب، بل أيضاً عن تنوّع أفكارها ووزنها. فلكل لوحة تعليق يختزل مخزوناً أدبياً وينم عن وسع ثقافتها. فلا عجب في أن تكتشف أن ريم صالح أجابت عن التساؤل المطروح في البداية، من خلال تقديمها معرضها الأول واستعدادها ل«المواجهة». وتعبّر عنه كتابة: «لسبب ما يتحوّل معرض رسوم مجالاً للتباهي. (فهناك مقدار من عدم اللياقة في أن تفتح أحشاءك أمام الناس هكذا، وخصوصاً عندما تفعل ذلك عمداً وبشغف). ولعلني للسبب المجهول ذاته، بقيت مستيقظة لأشهر، أم لعلّه خلطة من الجرأة والفزع والإثارة. منذ سنة، اكتشفت متعة مشاهدة رسومي تبصر النور في أذهان الآخرين. ولن أستطيع أن أفعل ذلك من دون عيونهم، بعد الآن». وفي هذا قرار وتصميم على خوض التجربة أمام الآخرين، من دون حياء، بعد أن جمعت الآراء من زوّار المدوّنة التي رجحت كفّة التشجيع على «ارتكاب» التجربة العلنية أو الإقدام عليها. وتزيد ريم لتقديم فنّها ومعرضها: «كل بورتريه (وجه) يعود لفنان، لا لصانع اللوحة»، كما قال أوسكار وايلد. «واحد» هو بورتريه ذاتي كبير. الأشخاص صُنعوا من أفكار، وهم جزء مني. وعندما تنظر بدقة، تراهم يشكلون «واحداً»». إسعاد دالي ومن يودّ أن يتابع «واحد» عن كثب عليه أن يصرف وقتاً في البحث عن مصادر الألهام. ذلك أن المعرض يشاهَد بمتعة، مثلما يُقرأ قراءة أدبية ونقدية، فريم قارئة من العيار الثقيل، تطرق كتب الرواية كما الفلسفة. وتختزن الثقافة الغنية الخلاقة التي انفجرت رسماً. والمعرض مؤلف من لوحات لوجوه مغنين ورسامين وموسيقين وأدباء، من بين الذين وقعت أعمالهم في أسر يديها وعينيها وأذنيها. وعندما يقع بصر زائر المعرض على بورتريه للرسام الشهير دالي، يراه سعيداً تعلو وجهه دهشة خفية... وذباب يحط عليه. ومن أين جاء هذا الذباب؟ من نص «يوميات عبقري»، لدالي يعرب فيه عن سعادته في قضاء يومه عارياً على ضفة نهر ويطن فوقه الذباب. في المدوّنة، تكتب ريم «هذا لإسعاد دالي». و «لماذا أردتِ إسعاد دالي؟» الإجابة تشوبها «خيانة» لما كُتب في المدوّنة، في مصلحة تظهير شغف الرسم لديها: «لم أرد إسعاده... اللوحة هي تجسيد لفكرة خطرت لي». وينسحب الأمر على بقية أعمالها المعروضة: لوحات المغنية ميلان فارمر تعبّر عن «عالمها الذي جسّدته بأعمالها وفنّها وليس عن شخصها أو حقيقتها». وجه فرجينيا وولف يكاد لا يُرى، إذ نسجته ريم بمائية سائلة جعلته ينقاد بيسر مع سيلان النهر وتموجاته الناعمة. ولكن الرائي بشعر بأن ثمة من يراقبه من تحت الماء أو عالم فرجينيا وولف. تأثير الرسام الأسباني فيلاسكويز في أعمال فرانسيس بايكن (الإرلندي المعاصر 1909 – 1992)، هذا التأثير أبصر النور في شكل وجه لبايكن مجرّداً، بينما امتلأت مساحة اللوحة بوجه صغير لفيلاسكويز كررته ريم 459 مرة. واستعارت الصبية الفنانة من بايكن نفسه لتعبّر عن طريقة تناولها الموضوع. يقول بايكن: «عندما ترسم احداً تعلم انك تحاول التقرب من شكله، ومن الطريقة التي مسّك بها. ولكل شكل تبعاته العاطفية». كاميل كلوديل، التي بدأت مريدة للنحات الشهير رودان، جاء وجهها يعبّر عن معاناتها الشخصية وحياتها المجدولة والمعقودة على الألم. أحياناً، يلمع الفنان في الإنسان منذ بدايته وقبل أن يخوض التجارب ويحصّل الخبرة... ولعلّ ريم صالح فنانة في بدايتها... ولكن عليها أن تثبت ذلك دائماً وتحمّل هذا العبء. استمرّ «واحد» من 26 كانون الثاني (يناير) حتى 5 شباط (فبراير). ويمكن متابعته عبر المدوّنة http://saltysbrainflash.blogspot.com/. وأما المعرض الثاني فلن يكون عنوانه «اثنان».