في كتابه الصادر أخيراً عن «دار الحضارة للنشر» يصوغ الشاعر العراقي سعد جاسم قصائد متنوعة عن الحب والجنون تحت عنوان يعكس جوّ الديوان وجوهره «أرميك كبذرة وأهطل عليك». لا شك ّفي أن العنوان يشي بأروسية مغلّفة بغطاء الطبيعة. وقد تكون هذه الأروسيّة انبثقت من لقاء «الحبّ» و «الجنون»، فأضحت هي سلاح الشاعر المشهور في وجه عالم «طاعن في خرابه الفاجع/ وظلامه المُريب». ولأنّ الخراب والظلام المستفحلَيْن في العالم الذي رفض الشاعر الانتساب إليه يعنيان الهدم والموت والعدم، ارتأى هذا الأخير تكريس كينونته كعاشق عبر الحبّ، أو بمعنى آخر عبر الجنس الذي هو ليس إلا فعل حياة في زمن الحرب والموت. من هنا اختار الشاعر أن يكتب عن استيهامات جسده كرجل من خلال تشبيه امرأته ب «البذرة» ونفسه ب «المطر» المتخفي وراء فعل «أهطل» بكل ما يحمله هذا الفعل من قوّة وصلابة وذكورة. وهذه «الهطولات» التي كرّرها الشاعر كلازمة في أكثر من قصيدة لا يتولّد عنها إلا احتفاء الطبيعة بخصوبتها واستمراريتها وتجديدها واحتفاء العشّاق بحيواتهم. لا شكّ في أنّ سعد جاسم في هذا الكتاب لجأ إلى بعض الصور الحسيّة الموغلة في الرمزية، لأنّ الطبيعة هي المكان الأرحب الذي يُمكن أحداً أن يستلهم منه أفكاره الأروسية بجرأة وحريّة لكونها تُمثّل العودة إلى الفطرة بكلّ ما تشتمل عليها هذه العودة من تجاوز للعادات والتقاليد والقواعد والقيود التي تضعها المؤسسات المختلفة في المجتمعات الإنسانية. هذا ما نستشفه من الحريّة التي يكتب بها الشاعر، حيث كلّ شيء مباح، فهو يرفض الثنائيات والتناقضات ويُنشد الوحدة الكونية التي تجعله حالاً في الطبيعة وعنصراً من عناصرها: فأمّه «الأرض» وقلبه «كونيّ» وروحه «كوكب» وكتفه «خزامى» وعلى شفتيه «تُورق» الأناشيد... فهو يصل بالتماهي بينه وبين الطبيعة إلى حدّ الالتحام أو كما يُعرف لدى «شعراء الطبيعة» ب «الاتحاد العام»، فيُصبح متّصلاً بذلك مع المطلق. يمضي الشاعر في قصائده الأربع عشرة نحو خلق أسطورة العشق، أمّا العشق فهو مرّة لامرأة ومرّة أخرى للأرض، التي هي العراق بفراتها ودجلتها وبغدادها وكربلائها. إنها الأرض- الأنثى أو «البلاد المستحيلة» كما يحلو له وصفها. ومتى كتب عن غربته وشوقه يحار القارئ ما إذا كان الشاعر مشتاقاً لوطنه أم إلى حبيبته أم الاثنين معاً. إنّه يلغي أي فواصل بين الحبيبة والوطن فيقول: «أسمّيك: سرّة الأرض والأرض عراقية»، فهو يرمي نفسه بين أحضانهما هرباً من «العمل الذي يقضم تفاحة قلبه» ومن «النفاق والضجيج والثرثرات» ومن الحياة الاستهلاكية المتمثلة ب «المطالب التي تتناسل مثل ذئاب أيامنا» و«التلفزيون» و«الأخبار» و«الكوارث» و«العزلة» و«رائحة الجثث»... فالعودة إلى الطبيعة والارتماء في أحضانها والتماهي فيها ليست إذاً إلاّ هرباً من أسلوب حياة استهلاكية تفوح منها رائحة المال والموت، كما أنّه يعمد إلى ربط المسألة الشعرية بالميتافيزيقية فيحاول فكّ طلاسم الوجود عبر عشقه وشغفه وجنونه: «مولعٌ بك/ لأنّك أصبحت لي/ في منفاي بلاداً... أنا لولاك/ بلا دال ولا مدلول/ بلا درب/ يؤدّي بي لاكتشافك/ واكتشاف الغامض السرّي/ في هذا الوجود»... وقد يكون «الفرات» هو الحبيبة المنشودة التي ولد الشاعر على ضفافها وابتعد عنها جسداً وبقيت ساكنة فيه روحاً رغم فارق المسافة بينهما، وهذا العشق جعله يؤثر، عن غير قصد، «الماء» على بقية العناصر الطبيعية، إذ جعلها تبدو في جوهر الأشياء وقلبها من دون أن تغيب عن قصائد الديوان. فكما أنّ الأرض كلّها «عراق»، الأنهار كلّها «فرات»: «إنّه الغياب/ يقرأ علينا ما تيسّر/ من سورة الماء/ فأحلم بك/ ولفرط توقي/ وكثرة طيوفي/ أصبحت طائراً/ من الأحلام/ أرفرف ملتاعاً/ في أفقك المستحيل/ وأحلّق/ أحلّق/ ولا أصل/ لأنّك تتوارين عميقاً/ عميقاً/ في بيتك- النهر/ والنهر فرات...».