مثل عقد من اللؤلؤ هو «حبر الشمس»! انفرطت حباته فتناثرت في كل اتّجاه. راح الكاتب يلملمها بأسلوب وجداني صادق متين حبّة حبّة، ونحن ماضون معه بشغف من دون ملل أو تعقيد. فالأسلوب سهل وواضح والأمثلة والشواهد ملموسة وثابتة، والحقائق التاريخية لبلاد الشام لا يدحضها أي زيف. كأن خالد الحروب في كتابه «حبر الشمس» الصادر عن دار الأهلية للنشر والتوزيع يعتصر قطرات العنب من دوالي الجليل ليروي بها ظمأ البعد عنه فيستذكر ونستذكر معه «غزة» و «حيفا» و «النقب» ويمسك بأيدينا ويسير بنا قرب الجدار في غزة التي ترفض زواريبها الضيقة التركيز على فقرها وحرمانها فهي لا تريد صدقة من أحد، إنّها فقط تريد أن تفتح لها المعابر ليتنسى لأهلها الخروج للعمل. فإسرائيل تحاربهم في قوت أولادهم، وتلك المعابر تشدّ الخناق على رقابهم. يسير الكاتب بنا ومعه نتوقف عند كل لوحة رُسِمَت على ذلك الجدار الأرعن. إن كل ريشة تروي حكاية من حكايا ذلك الشعب منذ أيام يسوع الناصري، فالمسيح في إحداها أسير خلف أسلاك الاحتلال حينًا أو رضيع يربض فوق صدره حجر كبير وقلبه ينزف دمًا. هي رسالة يوجهها الكاتب لمسيحيي العالم كي يأتوا ويدوسوا هذا الجدار علّه يتفتت تحت أقدامهم. ولم ينسَ الحروب أن يحدثنا بإسهاب عن ذلك الفنان العظيم «بانسكي» الذي يصوّر بوضوح وحب مأساة شعب يعاني أشدّ أنواع الظلم والاستبداد. فبرأي الكاتب إن «بانسكي» يستحق فعلًا من أهالي «بيت لحم» و «بيت جالا» ومخيم «الدهيشة» وجوارها باقة مريمية من تلك الربوع عربون امتنان. يعتمد الكاتب هنا أسلوب أدب الرحلات بمهارة فيصحبنا معه بجولة في ربوع فلسطين فنتابع السير معًا بشغف حتى نصل إلى «بئر السبع» حيث تصبح «الضفة الغربية» بقربنا وعلى مرمى حجر منا قرية الكاتب «حورة». هناك تفيض مخيلته بكل الصور البديعة عن أرض كل ما فيها عظيم وكأن الزمن يبدأ هنا ويرفض أن ينتهي. بعيدًا من الوعظ يصوّر لك الكاتب القضية الفلسطينية بجانبها الإنساني المحض فحتى البيوت الفلسطينية المتناثرة بوداعة فوق التلال تزدري بالمستوطنات المتوحشة البناء والفولاذية الجدران التي هي دخيلة على تلك الأرض فلا شيء يربطها بهذه البقاع المرسومة بريشة الخالق. والجدير ذكره أن الكاتب ابتعد قدر الإمكان عن النواحي السياسية إلا أنه سخّر أدب الرحلات والمرويات من أجل إلقاء الضوء على أحقية القضية الفلسطينية إذ يصوّرها من جانبها الإنساني المحض. ويعرّج الكاتب ونعرّج معه على مدينة «اللدّ» الفلسطينية فحكايتها مع ال «خضر» (مار جرجس) جديرة بكل اهتمام. ففي 23 نيسان (أبريل) من كل عام يحتفل العالم بعيد القديس «مار جرجس» الذي تحولت رايته مع الزمن إلى علم إنكلترا وصار معروفًا باسمه الغربي «سانت جورج». هذا وسقطت القدس بأيدي الغربيين في القرن الحادي عشر في ظلّ تحالف المصالح بين ملوك الغزو وباباوات الكنيسة الطامعين بالثروات أيضًا والذين أعملت جيوشهم السيوف في رقاب سكان «القدس» و «بيت لحم» وشهدت المدن الوديعة كلها أنهارًا من الدم. لقد أراد الغزاة أن يلبسوا فعلتهم قميصًا دينيًا فأشاعوا أن «مار جرجس» كان يقف مع الغزاة وهم يقتلون ويذبحون وباركهم. إلّا أن سيدنا «الخضر» لم يكن يومًا جنرالًا كولونياليًا يرافق جنود الغزاة ويبارك لهم سفك الدماء وسرقة أموال الناس واغتصاب نسائهم وهكذا ذُبِحَت الحقيقة كما تُذبَح باستمرار في تراثنا الذي يتعرض دومًا لاستباحة كهذه. وكأني بالكاتب يقول: حان الوقت أيّها القديس البريء لأن تطالب بك مدنك الوادعة «اللدّ» و «الطيبة» و «بيت لحم» و «الخضر» و «القدس»، حان الوقت لأن نفهم العالم أن الحرب الحقيقية التي خضتها مع ذلك التنين الذي احتلّ نبع البلد فاضطر الناس كلما كانوا يريدون الوصول إلى تأمين الماء إلى أن يقدموا له طفلًا من أطفالهم بعيدًا من النبع ليفترسه حتى يهرع الجميع لتأمين حاجتهم من الماء في هذا الوقت كي يستمروا على قيد الحياة. حان الوقت ليعرف العالم أن «الخضر» واجه الوحش وحيدًا وقتله وغرس الرمح الشهير في صدره. وهكذا فإن «الخضر» لم يكن وحشًا ولا قاتل حياة بل حاميًا شجاعًا للحياة. إنّه الغرب إذًا، من جديد، ينقضّ على حقائقنا التاريخية التي لا تحصى ممعنًا فيها تشويهًا وقرصنةً. وفي سياق نصوصه القيّمة، لم يغفل الكاتب أن يتحدث عن «خضر» آخر إذا صح التعبير هو محمود درويش شاعرنا العظيم الذي كتب قصائده بحبر من نور ربما كان هو «حبر الشمس»؛ فقد ترك لفلسطيننا الكثير الكثير من القصائد البديعة والموروث الثقافي الذي جاب به العالم وكانت فلسطين دومًا زوادته حتى أثناء مرضه. وفي كثير من الأوقات كانت معزوفات الإخوة الثلاثة «جبران» القادمين من الشمال الفلسطيني تشكّل مع كلماته سمفونية ترقى بنا إلى فضاء رحب من الأمل موقظة فينا انتفاضة الحق. وفي كتابه «خطب الديكتاتور» كانت نبوءة أنّه لا شكّ ستكون لهذا الديكتاتور نهاية على رغم بطشه واغتياله الأفق. إذ كانت تصدر لدرويش في باريس نصوص نثرية يسخر فيها من الحاكم العربي الخانع ويكتب خطب الديكتاتور الموزونة. أما عصفورة غزة راشيل كوري التي غردت للحرية على أنغام طقطقة عظامها فوقفت في وجه البلدوزر الإسرائيلي المتقدم وهي تصرخ في مكبر الصوت «توقف توقف توقف» محاولة منعه من جرف البيوت ولكن السفاح تابع سيره ليجعل جسد راشيل لوحة من دم ودموع وصبا لن تنسى فوق تراب فلسطين. وإن جاءت هذه النصوص مرصّعة بالوجدانيات إلا أنّها مضمخة أيضًا بثوابت وبراهين أرجعت إلينا في الكثير من الأحيان أمل الانتفاض... فهل من انتفاضة؟! إنه خالد الحروب في «حبر الشمس» الذي كتبه بأسلوب السهل الممتنع السلس في القراءة والعميق في الرؤية ممعنًا بالشواهد والبراهين التاريخية في بلاد الشام من «مارون الراس» في الجنوب وحتى أبعد بقعة في «غزة». وفي حضرة هذا الكتاب تشعر أنك أمام وثيقة تاريخية منصوصة بحبر الوجدان وصدق المشاعر وأحقية القضية، فهل يعقل أن نسمح ل «الأورفوار» أن تحل مكان السلام عليكم؟ ولماذا؟