قدر العراق ان يكون أول بلد عربي يتحرر من النظام العسكريتاري الديكتاتوري وآخر من يُمتدَح ويقتدى به في طلب الحرية وعملية الإصلاح والتغيير في المنظومة العربية. وينظر العراقيون الى تجربتهم على انها غنية، بما تختزنه من تضحيات ومآسٍ وتعدد مستويات الرفض من معارضة النظام الاستبدادي، الى مقاومة الاحتلال ومن ثم التصدي للإرهاب المتقمص لبوس «المقاومة» والذي يستهدف أطفال المدارس والأسواق الشعبية والناس العزل وينبطح متملقاً أمام الدبابة الأميركية. غير ان التجربة العراقية ما تزال محط تشكيك وتشويه من بعض العرب الرسميين، ومحل تمحيص ومراجعة لمساراتها من البعض الآخر، وهي مراجعة مبنية على الادعاء بأن ما حصل في العراق هو تغيير من الخارج وبفعل جيوش أجنبية غازية وان لا دور يذكر للشعب العراقي، وهذه أساءه بالغة وموقف غير منصف بحق العراقيين الذين تعرضوا لأبشع أصناف التآمر والغدر. لكن المؤلم بالأمر برمته ان الجدل الإقليمي حول دور الشعب العراقي قبل سقوط النظام البائد وبعده ما زال لا يستند الى حقائق ماثلة على الارض، وعلى ذلك أظهر بعض العرب (ساسة وأحزاباً) الشعب العراقي كما لو انه لا يكترث بأوضاع بلده، والأكثر من ذلك انهم حمّلوا الشعب العراقي مسؤولية احتلال أرضه، وبرأ العرب النظام البائد المدعوم من أنظمتهم السياسية من مسؤوليته في استقدام المحتلين، لكن الذي لا يعرفه بعض العرب ان العراقيين قاوموا النظام المطلق بشجاعة وحنكة وأحالوه الى ما يشبه عجل السامري، تعبث به الريح ويطلق خواراً مصطنعاً، على رغم أن دول التحالف ومنظمات الاممالمتحدة أخافت العراقيين يوم أظهرت النظام على انه نظام خطر ولا تجدي معه مقاومة شعب جائع ومكبل. يشي الأفق السياسي العربي بأن البلدان العربية المرشحة للتغيير ستقام فيها أنظمة سياسية ديموقراطية الى حد ما، وستعمل على إذابة الاحزاب التقليدية التي أسست النظام الجمهوري الخلافوي من خلال اجراءات تأهيلية تضع حداً للأحزاب المسلكية التي تصف نفسها بالطبقية او الطليعية او الجماهيرية والتي تنظر الى شعوبها على انها قطعان. وعلى ذلك، فإن التجربة العراقية ساعدت على إنهاء مرحلة الانقلابات العسكرية وأبدلتها بالانتفاضات الشعبية التي تؤهل الطريق لإقامة دول ديموقراطية، فالعراقيون أسقطوا الحاكم الذي يمثل رمز الواحدية، وفي الوقت نفسه أسقطوا الأداة السياسية التي أنتجت النظام الشمولي العربي. إن ما يحصل الآن في الدول العربية هو تجلٍّ واضح لانتهاء مرحلة سياسية وتدشين أخرى تعد نقطة تحول في الحكم العربي من نظام عسكريتاري واحدي محافظ الى نظام تعددي ديموقراطي، وكما يتضح من المشهد الحالي، فإن الدول العربية المرشحة للتحول يحكمها رؤساء انتجتهم المنظومة العسكريتارية المتمثلة بمؤسستي الجيش والأمن، والمسؤولة عن فرض نظام الحكم في تلك الدول عن طريق الدبابة والبيان الرقم واحد وتعطيل القضاء وفرض مجالس الثورة والاستيلاء على محطات الإذاعة والتلفزة، غير ان ذلك كله لم يعد منتجاً وغير قابل للتطبيق في عصر الاتصالات والتقنيات المعلوماتية الهائلة والمؤثرة، والدليل ان محاولات إسقاط هذه الانظمة يتم وفق معطيات المرحلة الجديدة التي لا تمكّن الانظمة العربية الديكتاتورية من البقاء لأي فترة زمنية مقبلة، فلم تعد مصطلحات من قبيل المؤامرة والعمالة والاستعمار صالحة للتسويق في عصر يشهد ترسيخ نظام دولي جديد يمارس تأثيره الكوني في محاصرة الأنظمة الديكتاتورية، ولا مجال لاتهام القوى المغيرة بالعمالة لويكيليكس والفايسبوك وتويتر التي أدت دوراً حاسماً في الانتفاضة التونسية وتؤدي اليوم الدور الأكبر في مصر. إن الانتفاضات الحالية في البلدان العربية تعزز وتقوي التجربة العراقية، ويأمل ان تفرز الانتفاضة العربية أنظمة حكم جديدة على حطام الأنظمة الديكتاتورية ستشكل محوراً ديموقراطياً مؤثراً.