طغت الاحتجاجات الشعبية المتواصلة في مصر على الانقلاب السياسي في لبنان الذي تزامن وقوعه مع انطلاقتها، حيث تسمّر اللبنانيون أمام أجهزة التلفاز يتابعون الأحداث في اكبر بلد عربي يشكل مركز القرار والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. وأضحت القضية اللبنانية ثانوية بالنسبة الى الدول العربية والأجنبية النافذة المتابعة بدقة لما يجري في مصر، وما قد ينجم عنه من تغييرات في سياسات المنطقة وتحالفاتها. في لبنان، يسير محور «الممانعة» بخطى سريعة ووطيدة للإمساك بالساحة اللبنانية وقرارها الوطني. فبعد تجاوزه «اتفاق الدوحة» بإسقاطه حكومة الرئيس سعد الحريري من خلال استقالة وزراء المعارضة والوزير «الوديعة» من الحكومة، بطريقة بعيدة من اللياقة والأعراف بإعلانها من دارة رئيس «كتلة الإصلاح والتغيير» النائب ميشال عون وليس من القصر الجمهوري أو السرايا الحكومي، تابع هذا المحور تحركه من أجل إبعاد الحريري عن رئاسة الحكومة المقبلة. واستغلت طهران رضوخ الإدارة الأميركية لشروطها في العراق، التي حصلت بنتيجتها على حكومة موالية لها ونفوذ قوي في الساحة العراقية، مقابل تأمين الانسحاب السلمي للقوات الأميركية من العراق والتعاون معها في أفغانستان، وتخلي دمشق عن الرياض وفك تحالفها معها بعد الانتخابات النيابية العراقية والتحاقها بطهران لقاء بعض المكتسبات على الساحة العراقية، لدفع الأمور في لبنان نحو التصعيد من أجل تثبيت نفوذها القوي فيه. وتابع «المحور» هجومه على الإدارة الأميركية المربكة في تصرفاتها والمتراجعة في أدائها والمنقلبة على مواقفها من تجميد المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، ما أدى إلى توقف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية في شأن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، والمنشغلة في تداعيات الثورة الشعبية التي حصلت في تونس وأطاحت حليفها الرئيس السابق زين العابدين بن علي، والخائفة من انتفاضات شعبية في مناطق ساخنة من الوطن العربي يحكمها حلفاء لها، ومنها مصر التي تشهد منذ أكثر من أسبوع غضباً شعبياً عارماً ضد القيادة السياسية التي رفضت مراراً التجاوب مع المطالب المرفوعة من فئات الشعب المختلفة، المتمثلة بإلغاء حالة الطوارئ وإطلاق الحريات وتحقيق العدالة الاجتماعية وإجراء إصلاحات سياسية أساسية وتعديلات دستورية على بنية النظام بحيث يتحول من نظام فردي استئثاري إلى نظام ديموقراطي تعددي. وبدلاً من الاستجابة لمطالب الشعب المحقة، أمعنت القيادة في تحديها بتزوير الانتخابات النيابية الأخيرة من أجل توريث الحكم إلى نجل الرئيس حسني مبارك. واليمن الذي يشهد أيضاً تظاهرات صاخبة ضد القيادة وتسلطها على مفاصل البلاد ومقدراتها، واضطرابات وحراكاً انفصالياً في جنوب البلاد نتيجة التهميش الذي يعانيه أهله، وخلافاً وطنياً في أقصى الشمال فشل النظام في التعامل معه بحكمة ودراية، ما دفع بطهران إلى استغلاله وتحويله خلافاً مذهبياً. ونيران تحت الرماد في الأردن والجزائر وغيرهما. وفي ظل الإرباك الأميركي والضياع الأوروبي والانشغال العربي في قضايا داخلية، وتخلي الرياض عن مساعيها مع دمشق لإيجاد تسوية للأزمة اللبنانية المنبثقة من القرار الاتهامي المتوقع إعلان مضمونه ولائحة الاتهام فيه في الأسابيع المقبلة، نتيجة تشبث دمشق وحلفائها بمواقفهم الرافضة لتقديم تنازلات تؤدي إلى تسوية متوازنة، وفشل الوساطة التركية - القطرية... شن المحور السوري – الإيراني هجومه الصاعق على الحريري وحلفائه وقلب المعادلة النيابية باستخدام الضغوط الترهيبية على بعض نواب الأكثرية، وأقصى الحريري الذي يحظى بثقة غالبية السنّة وتأييدهم عن رئاسة الحكومة. وتشير التطورات الأخيرة في لبنان، إلى أن دمشق مدعومة من طهران، تمسك بإدارة الشؤون اللبنانية ولا ترضى، مستندة في موقفها إلى القوة العسكرية الضاربة ل «حزب الله». ويتناسق موقفها من المحكمة الدولية واتهامها بالتسييس والدعوة إلى إلغائها ووقف تعاون الحكومة اللبنانية معها وتهديد اللبنانيين بالاختيار بينها وبين الاستقرار، مع موقف «حزب الله». وبعد أن نجحت دمشق في الإطاحة بالحكومة اللبنانية السابقة وإقصاء رموز «ثورة الأرز» عن السلطة، فإنها ستعمد بالتعاون مع حليفها وحليف طهران «حزب الله» إلى إدارة الحياة السياسية في لبنان، كما كان شأنها عام 2005، ومن المتوقع أن تبدأ بإلغاء مفاعيل «ثورة الأرز» وإنجازاتها في السيادة والقرار الوطني الحر. وهذا ما دفع الحريري إلى القول «إن التطورات الأخيرة جاءت على خلفية مخطط مدروس وضغوط خارجية شديدة الشراسة، استهدفت تغيير قوانين اللعبة الديموقراطية، على ما جرى عام 2004 من تمديد لرئيس الجمهورية» و «ان خروجنا من السلطة، جاء محصلة لأمر عمليات خارجي، جرى الإعداد له منذ أشهر، وعملوا على تنفيذه بأدوات محلية». وكان تعليل النائب وليد جنبلاط لأسباب تحوله من تأييد إعادة تكليف الحريري لتشكيل الحكومة الجديدة إلى دعم ترشيح النائب نجيب ميقاتي لتشكيلها، خوفه على الاستقرار الأمني والانزلاق نحو فتنة مذهبية ستكون تداعياتها كبيرة على لبنان والمنطقة، خصوصاً بعدما ظهرت ملامحها بتمركز المئات من عناصر «حزب الله» المرتدين القمصان السود في الأحياء والشوارع البيروتية، في إشارة إلى استعداد الحزب بالنزول المسلح إلى الشارع لمنع الحريري من تأليف الحكومة، في ما لو أتت الاستشارات النيابية لمصلحته. ويحظى الرئيس المكلف نجيب ميقاتي باحترام اللبنانيين وتقديرهم، وهو رجل أعمال ناجح وسياسي لبق مشهود له بالأخلاق الرفيعة والنزاهة والاستقامة والبعد عن الكيدية والانتقام، وقد نجح بطريقة أثارت الإعجاب في رئاسة الحكومة التي أشرفت على الانتخابات النيابية التي تلت استشهاد الرئيس رفيق الحريري. وهو يؤمن بالاعتدال والوسطية في العمل السياسي، كون لبنان لا يحتمل التطرف في الممارسات السياسية التي يغلب على معظمها الطابع الطائفي، وله علاقات جيدة مع دوائر القرار في الدول العربية والأجنبية وعلاقات شخصية مع الرئيس السوري بشار الأسد. ولم يكن الاعتراض «السنّي» الذي رافق تكليف ميقاتي تشكيل الحكومة العتيدة على شخصه، بل على الطريقة التي اعتمدت بتسميته خلافاً لما هو متبع في الحياة السياسية اللبنانية، وتوسلت الاستقواء بالسلاح وباستعراض القوة واتباع أسلوب التهديد المسلح والترهيب لتغيير التحالفات السياسية وتجاوز نتائج الانتخابات النيابية التي أفرزت أكثرية نيابية بالطرق الديموقراطية وليس بقوة السلاح. ويبقى السؤال: هل يستطيع ميقاتي تشكيل حكومة إنقاذ وطني كما أعلن لدى تكليفه؟ يحتاج هذا الأمر إلى توافق فريقي النزاع في لبنان على الملفين الشائكين المتعلقين بالمحكمة الخاصة بلبنان وسلاح المقاومة. ف «قوى 14 آذار» ترفض التخلي عن الحقيقة والعدالة وبالتالي عن المحكمة الدولية التي تجد فيها الوسيلة الوحيدة لكشف المتورطين في جرائم الاغتيال السياسي ومحاسبتهم وحماية لبنان من الجرائم المماثلة، وترى أن سلاح المقاومة تحول عن مهمته الأساسية وأصبح يهدد اللبنانيين ويتحكم بالحياة السياسية. في المقابل، تعتبر «قوى 8 آذار» أن المحكمة الدولية مسيّسة هدفها تهديد سمعة المقاومة ووجودها، وأن ل «حزب الله» الحق في استخدام سلاحه في الداخل من أجل حمايتها. ويرى المتابعون أنه، في ظل التباعد الكبير في الرؤى، من الصعوبة في مكان التوصل إلى حل يجمع عليه اللبنانيون حول هذين الملفين المعقدين. وهناك تساؤلات عدة حول تكليف ميقاتي، تحتاج الإجابة عليها إلى وضوح الصورة، منها الدور الفرنسي – القطري المتقاطع مع الدور السوري الذي مهد الطريق أمام ميقاتي، وما إذا كان هناك من صفقة حول المحكمة الدولية تُرضي دمشق وتؤمن المصالح الفرنسية في المنطقة؟ وهل أتى ميقاتي لتنفيذ مطالب المحور السوري – الإيراني وحلفائه في لبنان الذين رشحوه لرئاسة الحكومة؟ وهل كان هناك ضوء أخضر من الرياض وواشنطن على ترشحه، بعدما فقدا الأمل من إعادة تكليف الحريري، حرصاً منهما على الاستقرار الأمني في لبنان والمنطقة وعلى مصالحهما؟ وهل أقدم ميقاتي على خطوته بدافع شخصي ووازع من ضميره من أجل إنقاذ الوضع السياسي المأزوم؟ * كاتب لبناني