لم يكن مستغرباً الاهتمام الأميركي الاستثنائي بالتطورات في مصر. مصر حليف أساسي للولايات المتحدة في المنطقة وداعم لسياساتها وقطب في ما صار معروفاً ب «محور الاعتدال» العربي، في وجه الضغوط التي تتعرض لها سياسات هذا المحور ومصالحه في أكثر من مكان، من منطقة الخليج الى اليمن ولبنان، مروراً طبعاً بالعراق. فضلاً عن أن مصر ترتبط بمعاهدة سلام مع إسرائيل، هي الأقدم عمراً والتي تمكنت من التعايش والبقاء في ظل كل الظروف الصعبة التي عرفتها المواجهات العربية الإسرائيلية منذ كامب ديفيد عام 1978 الى اليوم. من هنا حرص إدارة أوباما على الانتقال السلس للسلطة في مصر، في شكل يحول دون إراقة الدماء ويوفر فرصة للمحافظة على التوجه السياسي للنظام على ما هو عليه. لكن الانتقال السلس للسلطة قد لا يعني تماماً حرص الإدارة الديموقراطية الأميركية على توفير غطاء لعملية ديموقراطية في مصر بالمواصفات المعروفة لهذه العبارة، وكما يطالب بعض المحتشدين في ميدان التحرير. ذلك أن عملية من هذا النوع ليست مضمونة النتائج لمصلحة التوجه السياسي للنظام المصري الحالي، في ظل القوة الشعبية لتنظيم «الإخوان المسلمين» وبعض القوى القومية الأخرى، التي تتجاوز شعاراتها مسألة تحسين الظروف الاقتصادية والإصلاح السياسي الى مواجهة راديكالية مع المشروع الأميركي في المنطقة، بما له وما عليه. من الصعب تصور أن الرئيس أوباما لا يتذكر تجربة سلفه ومحازبه جيمي كارتر في التعاطي مع الثورة الإيرانية سنة 1978 ووقوفه آنذاك، صادقاً، الى جانب شعار حقوق الإنسان، ما انتهى الى سقوط شاه إيران الذي كان معادياً لتلك الحقوق، وإرساء أسس النظام الإيراني الحالي الذي كان على رأس «منجزاته» القضاء على احتمال قيام أي مشروع ديموقراطي حقيقي في إيران. من الصعب تصور أن أوباما لا يتذكر تلك التجربة، التي بدأت بوعود ديموقراطية وتحالفات واسعة بين قوى المعارضة على اختلاف اتجاهاتها، وقيادات من نوع شابور بختيار وأبو الحسن بني صدر ومهدي بازركان وصادق قطب زاده وإبراهيم يزدي وسواهم، لتنتهي بالقضاء على كل هؤلاء وسيطرة التيار الأكثر راديكالية وعنفاً على مقدرات إيران وقطع الطريق على العملية السياسية والحياة المدنية. من هنا حرص إدارة أوباما، على ما يبدو من مواقفها وتصريحات المسؤولين فيها، على توجيه النصح للرئيس المصري بعدم إيصال المواجهة مع المعارضين الى نقطة يصبح معها الحفاظ على الاتجاه السياسي للنظام مستحيلاً، ما يؤدي الى ضربة كبرى للمصالح الأميركية في المنطقة كلها. وبالإضافة الى اتصالات الرئيس الأميركي بالرئيس مبارك، كانت الاتصالات التي تم الإعلان عنها بالأمس بين هيئة الأركان الأميركية ورئيس أركان الجيش المصري الفريق سامي عنان، خلال وجوده في الولاياتالمتحدة أثناء اندلاع الانتفاضة المصرية، والتي تم خلالها الحصول على ضمانات بأن يبقى الجيش «القوة القادرة على ضمان الاستقرار»، على ما جاء في تصريحات نشرت أمس عن لسان الأدميرال مايك مولن رئيس هيئة الأركان، الذي أضاف معلّقاً أن القوات المسلحة المصرية تصرفت حتى الآن «تصرفاً جيداً جداً». في مصر كما في بلدان عربية أخرى، تواجه أميركا معضلة ترتيب قيام ديموقراطيات تتزاوج فيها الشروط الضرورية لذلك مع خصائص تلك البلدان، ومن أهم هذه الخصائص غياب المؤسسات والأحزاب التي تلتزم بالعمل السياسي الطبيعي وبالتداول السلمي للسلطة. وفي غياب مؤسسات مدنية كهذه، تقبل التعددية وترفض أقصاء الآخرين، يصبح صعباً أن لا تنجب العملية الديموقراطية سوى القوى الراديكالية والعنفية التي تعارض المشروع الأميركي وتعمل جاهدة على إسقاطه. كيف توفّق أميركا أذن بين حماية مصالحها وحماية المشروع الديموقراطي، الذي تقول إنها تريد إرساء أسسه في منطقتنا؟ قد تكون تلك معضلة أميركا، لكنها قبل ذلك معضلة لبلداننا التي تنتفض على نظام متسلط لتقع في قبضة المؤسسة الوحيدة التي تمتهن التسلط، أي في قبضة الجيش.