تعطلت سيارتي في السابعة صباحاً، وعجز أبنائي عن مواصلة طريقهم إلى المدرسة، فعادوا إلى المنزل، وبالتالي لم أتمكن من الذهاب للعمل، فأصابتني حال تذمر من السيارة «العطلانة» التي أفسدت علينا اليوم الدراسي، ويوم العمل، وعطلة نهاية الأسبوع! كان هذا أسوأ ما توقعت لذلك اليوم. بعد دقائق ليست طويلة، بدأ المطر ينهمر بشدة، وبدأت الأحداث تتسارع بلا توقف! حاولت أن أجد طريقة توصلني لمكتبي لأعرف من زميلتي أن المبنى في حال طوارئ، والماء يدخل من كل مكان، والظلام يخيم على البناية أثناء النهار بعد انقطاع الكهرباء. لحظات وأنا مازلت أستوعب ما يجري في مكتبنا، تتصل أختي تستغيث قائلة إن المياه تحيط بالسيارة من كل مكان وتجرف بالسيارة، وهي محجوزة في طريق الجامعة! هنا استوعبت أنها في وسط مياه السيول، وعرفت أنها قد لا تتمكن من النجاة. حاولت أن أطمئنها، وأكدت لها أن هناك من سيأتي لنجدتها، وأنها مسألة وقت حتى تصل لها عمليات الإنقاذ. وبينما أنا أحاول الوصول للدفاع المدني والخط مشغول من دون توقف، تتصل زوجة أخي لأعرف أنها محبوسة داخل المدرسة التي تعمل فيها، والماء يتدفق من كل اتجاه حتى أغلق الباب، ولا يوجد من يساعدها أو يساعد المدرسات على الخروج!! وأنا مازلت ممسكة بالهاتف، أعاود الاتصال مراراً بالدفاع المدني من دون فائدة. التلفونات ترن ولا تتوقف، فهذه محبوسة في شارع فلسطين والماء يصل إلى باب السيارة، وأخرى تغرق سيارتها كلية في شارع ال 60، فتحاول المشي والسباحة لمنزلها، وآخرون محتجزون في شارع الأندلس، وأخي يخبرني أن الماء يصل لمنطقة الوسط في شارع عرفات، وسائقي يدور حول المدينة لا يعرف أين يترك السيارة المعطلة التي رفعها على حاملة ولا كيف ينجو بنفسه، وأخبار تتوالى عن جريان السيول التي تبحث عن طريقها إلى البحر وسط المدينة ومبانيها، وانهيار سد «أم الخير»، وأخبار قويزة والسامر والبغدادية والرويس وطريق الجامعة وغيره. أناس تغرق أرواحهم وبيوتهم ومقتنياتهم، والمطر مستمر يأبى أن يرأف بالمدينة وأهلها، الغني منهم والفقير، يأبى أن يعطيها فرصة لتلتقط أنفاسها وهي مازالت تلملم جراح «أربعاء» العام الماضي. وخلال ساعات قليلة غُمرت المدينة بماء قاتم اللون، ليرسم صورة أكثر بشاعة في نهار تحول لليل مرعب بصوت وصور الغرقى من النساء والرجال والأطفال وكبار السن. كانت الصور سريعة، فوضوية، وكارثية في «أربعاء» أسود جديد. ووسط هذا اليوم بفوضويته كان هناك المتوقع وغير المتوقع. لن أقول إن مطراً خيب آمال أهل جدة، وأنهم توقعوا شوارع جافة تماماً، أو أنهم لم يتعلموا من التجربة السابقة أن السيول قد تجري في مناطق معينة وعليهم تجنبها حتى لو كانوا في بيوتهم. هم يعلمون أنه لا وجود لعصا سحرية تحل مشكلات البنية التحتية، والصرف الصحي، وقنوات تصريف السيول الغائبة لعقود طويلة في سنة واحدة. لكنهم أيضاً لم يتوقعوا غرقاً أكبر وأعظم، على رغم وجود جرس إنذار سابق لا يزال صوته يدوي في آذانهم. لم يتوقعوا كبر حجم الكارثة الذي فاق استيعاب واستعدادات كل فرق الإنقاذ، فلم تستطع أن توجد في كل مكان. وهنا أنا لا أتحدث عن مشكلات جدة مع المطر، فليس هناك جديد ولقد شبع القارئ من القراءة عن هذه المشكلات، ولكن أتساءل عن دور الإعلام في يوم سوداوي كهذا. لقد كان من غير المتوقع أن نفتح التلفزيون لنحصل على إجابات لأين، ولماذا، ومتى، ومن، وكيف؟ لنرى أن الصورة الإعلامية لا تستوعب الموقف بتفاصيله، بل هي بعيدة كل البعد عن حجم الكارثة التي وقعت. تنظر للواقع من حولك وحال الطوارئ التي تعيشها المدينة، فلا تجدها تتجسد أمامك على الشاشة! كل ما تشاهده تغطية عادية لحدث عادي أو أكثر من العادي بقليل، يتخلل فقرات القنوات التلفزيونية وبرامجها اليومية. وكأن ما حدث لا يستحق البث المباشر، والتقارير المستمرة، واستضافة أصحاب الاختصاص كغيره من الأحداث الكارثية التي تجري في العالم. فلم يبقَ الخيار إلا لصور «اليوتيوب» وأخباره، ورسائل «البلاك بري» غير الموثقة المصدر، وانتظار صحف اليوم التالي التي حاولت نقل الصورة بأكبر قدر ممكن من الشفافية وبحجم الحال الحرجة التي عاشتها المدينة. لقد مد الإعلام المكتوب يده يضمد جراح المدينة و«يطبطب» عليها بحضوره، بينما تنصلت التغطية التلفزيونية من مسؤوليتها وقامت «يادوب» بواجبها لتضيف خيبة أمل أخرى للأحداث غير المتوقعة التي شهدها الأربعاء الماضي. [email protected]