يرى الدكتور سعيد السريحي أن أسوأ ما تعرضت له الحداثة في السعودية هو أن البعض أدرك أنها على شاكلة القصة أو القصيدة أو المقالة النقدية. ويعترف بتأخره في إنجاز مشاريعه الكثيرة التي تضم سلسلة محاضرات عن بدايات الحركة الوطنية الثقافية في السعودية هي في اعتقاده أكثر أهمية من تجربته مع الحداثة. والسريحى من الكُتّاب المهتمين بالتفاعل مع الموروث الشعبي، ويؤكد أن الصحراء هي أحد المؤثرات في الثقافة السعودية، إلا أنها أكثر اتساعاً من أن تكون كذلك. ولمناسبة مشاركته في ندوة النقد الأدبي، التي عُقدت قبل مدة في القاهرة، كان ل«الحياة» معه هذا الحوار: نود إلقاء الضوء على نادي جدة الأدبي، إذ كُنت عضواً فاعلاً فيه، ورؤيتك لمجلسه الحالي؟ - نادي جدة الأدبي كان مجلس إدارته تكتلاً بمن فيه وبمن يتصل به لدعم الفكر الحديث، وتجلى ذلك في محاضراته، كما تجلى في ندواته وكتبه ودورياته، وعلى رأسها علامات، أيضاً كان نافذة نطل منها على واقعنا الثقافي العربي، من خلال المشاركين في أنشطته من الكُتَّاب والنقاد والشعراء العرب. وخاض النادي معارك شرسة في سنوات الثمانينات والتسعينات كادت تودي به لولا حكمة المسؤولين آنذاك عن النادي، وحكمة الوسط الثقافي عموماً من مُحبي النادي، ثم استقرت الأمور بعد ذلك. والمجلس الحالي امتداد للمجلس القديم ممثلاً في بعض الأعضاء، الذين استمروا في المجلسين، ممثلاً كذلك في الأعضاء الجدد الذين ينتمي أغلبهم إلى الاتجاه الحديث، وكانوا من رواد النادي ومُحبيه قبل أن يصبحوا أعضاء في مجلس إدارته. إلى أية محطة وصلت الحداثة في المملكة؟ - الحداثة ليست قطاراً، ولذلك لا تُحسب مسيرتها بالمحطات، فهي فكر يشيع ويتراكم ويتحرك ويتحرر، وأصبح مجتمعنا أكثر إيماناً بالحداثة، لأنه يراها جلية في مختلف جوانب الحياة فيها، وأصبح أكثر وعياً بمكائد الذين يتمرسون خلف المحافظة، ليقفوا في وجه الحداثة، إذ تمكّن المجتمع من معرفة أن هؤلاء الذين ناصبوا الحداثة العداء في الثمانينات من القرن الماضي ناصبوا المجتمع كله العداء بعد ذلك، حينما انكشفت الأقنعة عن وجوههم، فظهروا على حقيقتهم متطرفين ومتزمتين وإرهابيين، أيضاً الحداثة وسعت دائرتها، وأصبحنا لا نعدم شاعراً في قرية نائية يردد شعر الثُبيتي، وقاصاً يتتبع خُطى عبده خال، ومُنظراً يتحدث عن آخر كتاب قرأه للغذامي. الحداثة كما سبق وقلت في صحيفة «الحياة» من قبل، قدر نسعى إليه ويسعى إلينا مهما حاول الكارهون له أن يترصدوا طريقه. علاقتك بالدكتور الغذامي هل تأثرت بعد إصداره كتاب «حكاية الحداثة في المملكة»؟ - الغذامي ليس كتاب «حكاية الحداثة»، وبإمكاني أن أجتزئ هذا الكتاب ثم يبقى الغذامي لا ينقصه بعد ذلك شيء رائداً لا ينكر دوره عاقل ومُنصف تنتابه حمى التمركز حول الذات حيناً، وتُعريه أكاذيب الأعراب حيناً، وأخاله أن حكاية الحداثة، باعتبارها حكاية نتاج للتمركز حول الذات لا يبرئ من الوقوع في دائرة أكاذيب الأعراب، ولعل الغذامي كان فطناً حينما سماها حكاية، فهي حكاية علينا أن نتقبلها كنص سردي لا تُلزمنا بتصديق ما فيها ولا ُتلزمه بتوثيق ما فيها. ما رؤيتك للمشهد النقدي في المملكة؟ وما أبرز أسماء الحاضرين فيه؟ - المشهد النقدي أكثر اتساعاً إذا ما نظرنا إلى عدد الفاعلين فيها، وهي أقل جرأة إذا ما نظرنا إليها من حيث ما تحدثه من هذه للذائقة العامة والوعي العام، وهي بعد ذلك أعمق قليلاً لدى من أسسوا لها، وأقل عمقاً لمدى من ترسموا خطى المؤسسين من دون أن يمتلكوا الحساسية النقدية، التي كانت لأولئك الذين كان النقد رهاناً بالنسبة لهم ولم يكن ترفاً يتعاطونه، هناك ثلة من الأصدقاء أخشى أن ذهبت إلى تعداد أسمائهم أن يسقط أحدهم سهواً، ومع ذلك فليس لي إلا أن أشير إلى الشدوي ومحمد العباس وحسين بافقيه وآخرين يؤسسون عبر التعاطي الأكاديمي لمنهج نقدي يعد بجيل من الباحثين. سنوات عدة ولم يصدر لك كتاب، لماذا؟ - لا أبرئ نفسي من إهمال يُفضي في بعض الأحيان إلى ضياع أوراق أقدمها في ملتقيات، ثم أبحث بعد ذلك عنها فلا أجدها، وهو إهمال يعود إلى شيء من السأم والعدمية والإحساس بأن لا جدوى كأنما يغريني أولئك النحاتون الذين يصنعون تماثيل من الثلج وهم يدركون أنها ستزول بعد حين. ولكن لدى مشاريع عدة وأوراقاً لم تكتمل، وأخرى أجهضتها المناسبات وأنا على موعد مع عُمر ان صدق قدمت فيه ما أدفع به عن نفسي ما اتهمها بها من إهمال وعدمية وإحساس باللا جدوى. وماذا لديك من مشاريع؟ - أي حديث عن مشاريعي الجديدة سيدخل في باب الوهم إن لم أقدم ما سبق أن تحدثت عنه في حوارات مماثلة وعلى مكتبي تنام أوراق تتحدث عن الجنوب حيناً، وعن القهوة حيناً آخر، أيضاً عن ثقافة الصحراء، ولست أدرى متى أنجزها لكي أُنجز أشياء أخرى لا تزال تنام على ورق الذاكرة. الرواية السعودية إلى أين؟ - هناك ما يمكن أن يُعتبر انفجاراً روائياً يكسب من الانتشار بقدر ما يخسر من القيمة الفنية لها، ويتكئ على قوانين الفضح وكشف المستور أكثر ما يخضع لشروط العمل الفني، ومع ذلك لا يمكننا أن نتجاهل اثنين استطاعا أن يضعا الرواية السعودية في مصاف مثيلتها في العالم العربي، وأعني بذلك رجاء عالم، عبده خال. مما يؤخذ على بعض الروايات السعودية أن توظيف المكان يفتقد العمق المعرفي، ما تعليقك على ذلك؟ - لا نستطيع أن نقول ذلك حين نقرأ عبده خال، كما أننا لا نستطيع أن نزعم ذلك حين نقرأ رجاء عالم، فعبده خال رصد تفاصيل قرية في الجنوب وأحياء جدة، ورجاء عالم دوّنت تاريخ مكة الثقافي والاجتماعي، فكلاهما قدم الرواية المنتهية للمكان الذي تدور فيه أحداثه، أما إن أردت بغياب المكان عن تلك الروايات، فقد قُلنا من قبل أنها تُشكل فترة روائية، فأنا أتفق معك وفي الغياب عندئذ جزء من الوهن الذي نعاني منه. نود إلقاء الضوء على مشاركتك في ندوة النقد الثقافي الدولية؟ - الورقة المقدمة تتبع ما آل إليه مصطلح «التناص» عند الدارسين العرب حين تحول إلى بديل عما عرفته البلاغة بالاقتباس والتضمين حيناً، وبالسرقات والأخذ والاحتذاء حيناً آخر، مفارقاً بذلك الفلسفة التي يرتكز عليها لدى من أسسوه من النقاد الجدد، إذا كان الإرث البلاغي والنقدي يشكل إغراء لكثير من الباحثين والدارسين ممن جرت العادة على وصفهم بالتقليدين الذين لا نكاد نجد في ما يقدمونه من أبحاث ودراسات غير ما لا يزيد على أن يكون استنساخاً لذلك الإرث، فإن هذا الإرث يشكل إغواء لباحثين آخرين يقدمون أنفسهم باعتبارهم منتمين إلى اتجاهات الحداثة وما بعدها، فيما لا تكاد تشكل الحداثة وما انبثق عنها من نظريات لغوية ونقدية أن تتحاور لديهم، استخدام مصطلحات يتوارى خلفها ضرب من التفكير لا يكاد يختلف عن تفكير أولئك الذين وقفوا جهودهم على استنساخ الإرث البلاغي وإضافة شرح إلى شروحه. ولعل أولئك الذين نصفهم بالتقليديين أكثر وضوحاً حين سموا الأشياء بأسمائها، من هؤلاء الذين تحولت دراستهم إلى حجاب يحول دون الوعي الصحيح بالمناهج والفلسفات، التي تنتمي إليها النظريات النقدية الحديثة. ولعل العلة في ذلك تعود إلى الافتقار إلى الوعي الجديد، الذي يتأسس على فلسفة نهضت على أنقاض الفلسفات القديمة، ومن بين ثناياها انبثقت النظريات النقدية الحديثة. ولذلك فإن غياب الوعي بالفلسفة الجديدة يفضي إلى احتواء الفلسفات القديمة للنظريات الحديثة، ويفرغ مصطلحاتها من دلالاتها، ويحيلها إلى زخارف تتزين بها دراسات تتذبذب بين قديم لم تنعتق منه وحديث لا تنتمي إليه.