بينما كان العالم أجمع متسمراً أمام شاشات التلفزة في 28 كانون الثاني (يناير)، وهو يشاهد في حالة من الذهول الصدامات العنيفة بين أجهزة الشرطة، السرية منها والعلنية، والشارع المصري في غضبه ورفضه الصارخ للواقع السياسي، كان الرئيس محاطاً بوزرائه ومسؤوليه وعساكره، والأهم بمصفف شعره وماكييره، يتهيأ في إحدى غرف قصره الهادئ لإلقاء كلمته. حين كان الأمن يقذف بقنابله المسيلة للدموع وينزل بهراواته الغليظة على رؤوس الشباب المتظاهرين العزّل الذين كانوا يواجهون مصفحات وآليات الأمن بأجسادهم وحجاراتهم، كان الرئيس يوجه ارشادات في غاية الدقة والهدوء الى ماكييره الشخصي، وهو المسؤول عن تأمين مظهره تجميلاً وتزييناً، عما تستدعيه الأزمة من ضرورة إخفاء التجاعيد ووضع المزيد من المكياج لإظهار وجه السلطة أكثر نضارة وشباباً! وهذه أحد أمراض الأنظمة العلمانية العربية التي وصلت الى مرحلة الشيخوخة والعجز. الخطاب ألقي في الدقائق الأولى من فجر 29 كانون الثاني، أي في اليوم التالي لأحداث يوم جمعة الغضب، حيث نزل الشعب الى الشوارع مطالباً بإصلاحات سياسية واقتصادية، وصولاً الى مطلب كان واضحاً أكثر مما ينبغي في بعض الأحيان، وهو تنحي الرئيس عن السلطة وعدم توريثها لابنه. كان العالم كله يتساءل عن الرئيس المصري منتظراً ظهوره، خصوصاً بعد اعلان التلفزيون المصري حوالى العصر انه سيلقي كلمة. وبعد انقضاء ما يقارب سبع ساعات طوال، ظهر الرئيس أخيراً أنيقاً كعادته بشعره الأسود المصبوغ ووجه لم يخل من التجاعيد وعلامات التعب، ليقول جملة واحدة لا أكثر. جملة قالها كل الرؤساء العرب من قبله، بمن فيهم الرئيس التونسي السابق بن علي، وهي أن كل شيء مسموح في إطار القانون والشرعية وأنني «لن أسمح» بتجاوز الاطار هذا. لكن، ماذا تعني هاتان الكلمتان حقاً في سياق استخدامهما داخل فضاء سياسي، كالنظام المصري، يدّعي امتلاكه، طبعاً وحده، الشرعية والقانون والحقيقة. واذا ما ترجمنا هذه الجملة بركيزتيها الدلاليتين الاساسيتين، الشرعية والقانون، الى لغة سياسة الانظمة الشمولية، كانت النتيجة ظهور الجملة التالية بكل بساطتها المرعبة: «انا ممثل الشرعية وواضع القوانين، وانا الذي أرسم حدود وسلطات الأشياء في ما تقولون او تفعلون». وسيتم حل الأزمة، طبعاً انطلاقاً من وجهة نظر الخطاب، بإقالة حكومة وتشكيل أخرى، وليس إحداث تغيرات جذرية. فالاشكالية كما يراها الخطاب لا تكمن في بنية الفضاء السياسي الذي استمر مدة ثلاثين عاماً، وهي ذات وحدانية صارمة تعود سلطة القرار فيها الى ممثل الشرعية وواضع القوانين وحده من دون وجود أي شريك آخر، بل المشكلة، في غاية البساطة، هي في الأفراد الذين فشلوا في أداء مهماتهم ولم يقدموا شيئاً الى هذا الشعب. لكن النظام سيبقى قائماً ولن يتغير لأن الرئيس هو «الشرعية» بذاتها. ومن جهة أخرى حاول الخطاب التوجه، وإن بتعثر قليل، نحو إثارة مشاعر الخوف عند الشارع المصري عبر بناء مقارنة، في غاية التعميم، مع دول أخرى مرت بالاضطرابات ولكنْ «لا ديموقراطية تحققت ولا استقرار». هل هناك إحالة سرية خجولة وسريعة الى الوضع العراقي؟ بالتأكيد هناك أكثر من إحالة في هذه الجملة الملغومة التي تحذر من المستقبل المجهول. لكن ربما كانت أخطر الاحالات تتعلق بموضوعة حزب الإخوان المسلمين وصعوده الى السلطة في حال سقوط «نظام الشرعية»، وبالتالي سقوط «أم الدنيا» في فخ حكم إسلامي معمم. فإذا كانت العمامة سوداء حوزوية في العراق، فإنها ستكون بيضاء أزهرية في القاهرة. يؤسس عنصر الخوف هذا ذاته على فرضية في غاية الاشكالية وهي قمع الحريات وإلباس الفضاء الاجتماعي العام الحجاب الاسلامي والنقاب المصري. ولكن لنتوقف هنا قليلاً. هناك حقيقة صارخة لا يمكن أحداً إنكارها وهي وجود احتمال كبير يتيحه الفضاء الاجتماعي، قبل السياسي، بأن يستولي الإخوان المسلمون على السلطة في مصر، سواء عبر «ركوب الثورة» أو حتى عبر صناديق الاقتراع. لكن هذه الفرضية، فرضية الخوف من المجهول المستقبلي واحتمال مصادرة الإخوان له والقول بوجود خيارين لا ثالث لهما، تهمل، بل تقمع، عنصراً في غاية الأهمية داخل المشهد السياسي المصري الراهن، وهو ان الإشكال السياسي لا يكمن في الخوف مما قد يظهر (بعد) الأحداث، بل هو يتركز كله على بناء مواجهة سياسية مع النظام (الآن) بقمعه السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي استمر ثلاثة عقود من دون تغير. هذه الفرضية بنت وتبني ذاتها على تبرير ما يحدث من قمع سياسي وتدهور اقتصادي يصل بالبلد الى الحضيض عبر خلق الخوف من مستقبل إخواني. بل تسلم هذه الفرضية بوجود «الحريات» الآن في مقابل سلب كل انواع الحريات في ظل نظام حكم إخواني محتمل، وهنا تحديداً تكمن خطورتها حيث المطلوب القبول بالواقع على ما هو عليه والاستسلام له. ان اي تحوير في اتجاهات الحديث عن الحدث المصري الراهن نحو اثارة الرهاب من المستقبل عبر التشديد على حزب الاخوان، ليس إلا محاولة تشويه لعملية الرفض الصارخ والغاضب التي تجتاح شوارع المصر الآن. * كاتب عراقي