نادراً ما ترتفع أسعار سلعة أو خدمة لها تأثير ملموس في مستوى معيشة معظم المواطنين من دون أن يرافق ارتفاع الأسعار ارتفاع أصوات المطالبين بتحديدها. ولا جدال أن ارتفاع كلفة المعيشة مشكلة حقيقية تترتب على إهمالها عواقب غير محمودة. فما الحل؟ بدءاً لا يوجد حل كامل منصف يرضي الجميع ولا يؤثر سلباً في أبعاد اقتصادية أخرى. ولكن أياً كانت درجة جدوى الحلول التي قد يقترحها من يصوغ السياسة الاقتصادية، فحتماً، ينبغي، أياً كان ما حدث فعلاً، عدم تحديد الأسعار، لأن أضرار تحديد الأسعار أكثر من منافع تحديدها، كما سنحاول بيانه. ولعل أهم أضرار تحديد الأسعار، أياً كانت الدوافع والأسباب، أن تحديدها (أي الأسعار) يفسد الدور الذي تقوم به الأسعار في توزيع الموارد التي مهما بدت كثيرة تبقى في حقيقة الأمر شحيحة. وما الأسعار، في أي نظام اقتصادي يعمل تحت مظلة حرية الأسواق وضمان الملكية الفردية، في نهاية المطاف، إلا نظام «إشارات» فاعل لا يختلف في دوره عن أي نظام محكم ينطبق على الجميع في مراقبة وضبط سير المركبات على الطرق أو في الموانئ والمطارات. ولا خلاف على أن تحديد الأسعار أمر مرغوب فيه لو أن دور الأسعار ينحصر في كونها أداة محاسبية لتحديد الرقم الذي يدفعه المشتري والرقم الذي يقبضه البائع. غير أن «الشيطان يدخل في التفاصيل» كما يقول المثل الأجنبي. فإن تحددت الأسعار بأقل ممّا تحدده الكميات المطلوبة والكميات المعروضة، إضافة إلى ما هو «متوقع» عرضه أو طلبه أو كلاهما في المستقبل، فإن ذلك «التحديد» سيؤدي إلى شح المعروض للبيع أو انعدام وجوده، إلى جانب ظهور أسواق سوداء وبأسعار أعلى مما ستكون عليه لو لم يتم تحديد الأسعار. ولم تعد المواد الغذائية ولا غيرها كمواد البناء، سلعاً محلية تحدد أسعارها عوامل وطنية لوحدها، وإنما يحدد أسعارها المجموع الكلي لما يطلبه العالم أو يعرضه أو تتوقع «الأسواق الآجلة» عرضه أو طلبه، على مستوى كوني، في المستقبل. لقد أدى تحسن مستوى المعيشة في دول كثيرة، من بينها البرازيل والهند والصين إلى زيادة الطلب على المواد الغذائية. وذلك بدوره أدى إلى ارتفاع المستوى العام لأسعار المواد الغذائية على مستوى العالم أجمع. وهل ما يأكله الصيني هو ما يأكله الكندي أو الفرنسي؟ إن اختلاف الأذواق والإمكانات الاقتصادية لا يغير من حقيقة أن المواد الغذائية بدائل لبعضها بطرق غير مباشرة. فصحيح أننا في السعودية بمفردنا، على سبيل المثال، نشتري نصف الكمية المصدرة من العالم أجمع من الشعير. ونحن لا نستهلك الشعير مباشرة، وإنما نستهلكه من طريق ما نستهلك من لحوم وألبان. وحينما يزيد الطلب العالمي على «فول الصويا» مثلاً، وهذا حدث فعلاً بالدرجة الأولى بسبب زيادة الطلب في الصين، فإن الفلاح الأميركي أو الكندي أو الأوروبي يحول بعضاً من أرضه التي كانت مخصصة لزراعة الشعير أو القمح، إلى زراعة «الصويا» لأن أسعار الصويا ارتفعت. ولذلك يقل المعروض من الشعير والقمح وغيرها من المنتجات الزراعية فترتفع أسعار المواد الغذائية. وكيف يمكن التعامل بطريقة مقبولة مع ارتفاع أسعار القوت اليومي للناس؟ بالنسبة إلى الدول الريعية كالتي تشكل عائدات مبيعات سلعة واحدة أهم مصدر لدخلها الوطني، لا بد من محاولة إيجاد أدوات لإعانة عامة الناس وذوي الدخول المتدنية، خصوصاً من سعير ارتفاع أسعار الغذاء. وعلى المستوى المثالي نظرياً ينبغي إيجاد نظام إعانات لا يفسد الدور المهم جداً الذي تؤديه الأسعار في توزيع الموارد. وتفاصيل بعض الأدوات التي يمكن أن تقلل من ضرر الإعانات في تبذير موارد شحيحة موضوع معقد ليس هذا مكان التطرق إليه. وبالنسبة إلى السعودية فلديها تجربة طويلة يسهل الاستفادة منها في الوقت الحالي في تفعيل أية إعانات جديدة. والسياسة الاقتصادية التي قد يضطر إلى اتخاذها من ينفذها، وليس من يتحدث عنها في صحيفة سيارة أو فصل دراسي، لا بد أن تكون من نوع «سددوا وقاربوا». وقديماً قيل: البحث عن الكمال عدو النجاح على أرض الواقع. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي