شهدت العقود الثلاثة الأخيرة من تاريخ المجتمعات والدول والأيديولوجيات تحولات هائلة مثل انتقال أميركا اللاتينية من الخلفية إلى المقدمة وانطلاق الصين وانهيار المنظومة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة ونشوء العالم المتعدد الأقطاب واندفاع سيرورة العولمة وما إلى ذلك. ويبدو أن مطالع هذه التحولات أمسكت بتلابيب العالم العربي وحرّكت الرمال تحت شعوبه وأنظمته. لا ينتابنا إلا الفرح حيال ثورة الحريات والأمن الغذائي والاجتماعي في تونس أولاً، وفي مصر، ثانياً. لا يُمكن إلا الانحياز الى حركات وتحركات في أساسها حقوق الإنسان والمواطن وإن كان يعطّل هذا الفرح سؤال العنف الذي تأتي به الجموع على نهج سلوك الجموع في كل الثورات. ونصرّ كغيرنا على رؤية وجهة هذه التحولات ومنطلقاتها من دون أن نغرق في تفاصيل غير مستحبة علماً بقلقنا ألا ينكفئ النهوض من تحت الأنقاض إلى التسبب في المزيد منها، وأن تنتصر الشعبوية على حركة الثورة. وفق إكسل هونت (مفكر مختص في نقد المدرسة النقدية)، فإن أهم مكوّن في حياة البشر في المرحلة الراهنة هو نيل الاعتراف من الآخر، اعتراف يحفظ الكرامة ويقرّ بوجودها. وأعتقد أن ما حصل في تونس وفي مصر، وما قد يحصل في أقطار عربية أخرى يتأسس على فقدان الكرامة، كرامة الفرد والمجتمع والجماعة المتخيلة. قد يكون الإنسان فقيراً معوزاً أو محروماً من بعض حرياته أو حقوقه لكنه يواصل حياته على نحو ما متكئاً على دعم مجتمعي وأهلي وديني يمكّنه من استعادة بعض عافيته. يضيق حيز الحياة من دون أن تتوقف. لكن يبدو أن الأمر في تونس ومصر، ضاق الحيز واتسعت الكرامات، وطئ السقف كلما انتصبت القامات. ومن هنا هذا الصدام الذي لا مفرّ منه بين الكرامة وبين حركة التضييق. ومن هنا يُمكن أن نفهم الدعوة إلى رحيل النظام الذي أهان وأذلّ أكثر وضوحاً من الدعوة إلى توفير الخبز. ما حصل في مصر وتونس الآن حصل من عقدين فقط في دول المنظومة الاشتراكية سابقاً. وهناك أوجه شبه بين الحدثين إذا افترضنا أن تلك الأنظمة صادرت الحريات والحقوق الأساسية إضافة إلى الإبقاء على اقتصادها في قبضتها تضبط وتغدق وفق نظام من التحكم البافلوفي. لقد تجاوزت غالبية هذه الدول مخاض الديموقراطية والاستقرار وانضمت تباعاً إلى الاتحاد الأوروبي بمعاييره المتشددة فيما يتصل بالاقتصاد وحقوق الإنسان. غالبيتا، أيضاً، عدا يوغوسلافيا مرّت المرحلة الانتقالية بعنف محدود احتوته قناعات الشعوب والقوى الفاعلة فيها بأنه لا مناص من دستور مفتوح ينصّ على تداول السلطة وإقامة برلمانات وضمان رزمة من الحريات والحقوق العامة للجميع. وهو ما يجعلنا نسأل عن طبيعة المرحلة الانتقالية في تونس ومصر وعن وجهة التطورات هناك. ما يُقلق هو هذا النزوع إلى عنف لا طائل منه مقروناً بلغة الغضب والتنفيس والتفريغ والانتقام. ومما يزيد من القلق غياب قوى بديلة قوية كجزء من محصلات نظام القمع والسجون التي تدفع بالقوى المتنورة إلى الزوايا والمنافي وبقوى التدين الشعبوي إلى الأصولية والغيبيات والمشاريع النهائية مثل الخلافة وسواها. ومع هذا، فإن الرهان في مصر، مثلما هو في تونس، على مطالع قوى ديموقراطية ليبرالية انخرطت في ثورة الاتصالات تمهيداً لإحداث ثورة كرامات. يخيّل لي أن قطاعات واسعة من النُخب المتسيّدة في تونس ومصر تلتقي في جوهرها وتوجهاتها مع التحولات الحاصلة. ونرجّح أنها تؤيدها، وتعمل على تطورها إلى حالة سياسية أرقى. وهو ما يحصل في الأنظمة الأبوية المعزولة والمنعزلة عن الشارع وراء ألف سور وحاجز مادي ونفسي وإجرائي. فأوساط واسعة من الشيوعيين الروس انخرطت في البيريسترويكا وعملية البناء في روسيا. وهكذا في تشيكيا وبولندا ورومانيا. ومن هنا، فإن لقاءها مع الفئات الوسطى القادرة على إنتاج المجتمع وقياداته الجديدة على أساس من لغة الحقوق والحريات والحوار والديموقراطية هو لقاء مصيري يختصر المرحلة الانتقالية ويجنّب المجتمعات المتحركة الاندفاع في الفراغ أو نحو الحلول المُطلقة التي تنقلب على الحريات في العادة وتنتهك الكرامات. نقول هذا وفي أذهاننا الثورة في إيران. فما ان انتصرت حتى انكفأت إلى قمع ودوْس للحقوق وإهدار للطاقات الاقتصادية، لا سيما الموارد العامة على مذبح أدلوجة خلاصية. من هنا أهمية أن يكون للتحرك في الشارع مشروعه الذي يتعدى الإطاحة بالنظام، وأن تكون للقيادات الميدانية التي لا نعرفها في الراهن أفكارها وحكمتها التي تتجاوز التخلص من القمع وأجهزته لأن الفلتان الأمني مثلاً، وغياب سلطة القانون لفترة طويلة من شأنه أن يُنتج من جديد الحاجة إلى حاكم قوي ونظام شديد أبأس ليضبط الأمور وإنتاج معاهدة اجتماعية تميل لمصلحة مصادرة الحريات أكثر مما تضمن الأمن الاجتماعي والفردي بكل مستوياته. لقد استطاعت دول أميركا اللاتينية ودول المنظومة الاشتراكية (ليست كلها) سابقاً أن تنتقل من الخلفية إلى الواجهة، من التخلّف إلى النهوض لأنها اتفقت في نهاية المطاف على صيغة للحكم يستطيع فيه الناس أن يكونوا أحراراً على نحو معقول في أفكارهم وأعمالهم وانتماءاتهم. ولأن هذه المجتمعات تحرّرت من قبضة الأيديولوجيا وحراك الهويات القاتلة والإرث الثقيل من المعتقدات الخُلاصية والغيبية. وهو ما تستطيع الشعوب العربية أن تحققه، لا سيما أننا نفترض امتلاكها المعرفة والوعي والعقل والقدرة على إنتاج مشاريع مشرقة وواقعية، وهو ما كانت سدّت عليه العقلية والأنساق الثقافية كل الدروب. والأنظمة الأوليغارشية أبرز هذه الأنساق وأكثرها إعاقة أمام تطبيقات هذه المعرفة على نحو لا يسحق الإنسان ولا يدوس كرامته. كنت نشرت، يوم 24/11/2010 هنا، في صحيفة «الحياة»، مقالاً جاء فيه: «لكن سيظلّ للجيو - سياسة العربية خصائصها. وأبرزها، أن انحسار الدولة العربية لا يحصل بضغط العولمة في أساسه بل لقصورات بنيوية أساساً في صلب مشروع الدولة. وإذا ما واصلت الأمور تدحرجها في الاتجاه ذاته، فقد نرى اضمحلال بعض الدول العربية وسقوطها من إطارها الذي عرفت به». لم تكن نبوءة ولا أنا كذلك، بل محاولة استشراف الآتي بناء على تأمّل الحالة العربية ومقارنتها مع حالات مماثلة. وكلي أمل أن تنسحب المقارنة على وجهة التطورات، أيضاً، وأن تنتقل هذه التحولات إلى كل موقع حيث تمّ سحق كرامة الإنسان العربي وغير العربي.