كتب الدكتور مصطفى البرغوثي مادة بعنوان «البديل عن فشل المفاوضات» (صحيفة «الحياة»، 9 كانون الأول/ديسمبر 2010) أهم ما فيها أنها تحاول التفكير بمخرج عملي للقضية الفلسطينية من الاستنقاع الذي باتت تختنق فيه. وهو يطرح المشكلة في شكل صحيح عبر دعوته إلى ضرورة إيجاد بديل للمفاوضات، التي ما عاد يراهن عليها أحد. لكنّ المشكلة أن البديل عنده جاهز، ويتمثل ب «الإعلان الفوري عن الدولة الفلسطينية وحدودها على جميع الأراضي المحتلة بما فيها عاصمتها القدس، ومطالبة الجميع بالاعتراف بها»، طالما أن الفيتو الأميركي مؤكد في حال محاولة إعلانها من طريق مجلس الأمن. يبدو هذا الحل استنتاجاً طبيعياً استناداً إلى الدعوات الفلسطينية المتكررة المطالبة بهذا الإعلان، أو المهددة به، والذي يبدو أن آفاق دعمه دولياً أخذت تلوح من خلال اعتراف مجموعة بلدان في أميركا اللاتينية (البرازيل والأرجنتين وبوليفيا والأكوادور، ومن المرجح أن تتبعهم الأورغواي بعد أشهر) بهذه الدولة على حدود 1967. صحيح أن هذه الاعترافات الدولية تثير قلق بعض القادة الإسرائيليين، وهو ما عبّر عنه وزير الصناعة والتجارة الاسرائيلي بن اليعازر بقوله «لن يفاجئني اذا ما اعترف العالم اجمع العام المقبل، بما فيه الولاياتالمتحدة، بدولة فلسطينية. عندها سنسأل انفسنا اين كنا وماذا بذلنا من جهد، لذلك يجب فتح المفاوضات مع الجانب الفلسطيني بالسبل كافة، حتى لو تطلب ذلك دفع ثمن اضافي وتجميد الاستيطان لأشهر مقبلة لانها مصلحة اسرائيلية استراتيجية». مع ذلك أعتقد أن إعلانها، في هذه المرحلة، لا يخدم قيامها الفعلي لأنه سيفرض على كل دول العالم، من دون مقدّمات حقيقية، إما الاعتراف بها فوراً أو لا. وبالنتيجة سيقتصر الاعتراف بها، في أفضل الأحوال، على البلدان العربية والإسلامية وأشباهها. وهؤلاء قليلو الأهمية في تثقيل موازينها، طالما أن القضية الفلسطينية وصلت إلى هذه الحال في ظل تأييدهم. أما الدول المتطورة، القادرة على إعطاء معنى لهذا الإعلان إن تبنته، فمعظمها سيتجاهل الموضوع عملياً. هذا ما سيفعله ليس لأنه يؤيد إسرائيل (قد يكون بعضه كذلك)، ولا لأنه ينكر على الفلسطينيين حقهم بإقامة دولتهم، بل لأنه سيجد نفسه أعجز من أن يفرض على إسرائيل «دولة» لا يتحرك الفلسطينيون بقوة من أجل استقلالها. ضرورة هذا التحرك الشعبي لا تغيب كلياً عن الدكتور، لأنه يعتبر «اتخاذ إجراءات فعلية لفرض الأمر الواقع على الأرض في مواجهة السياسة الإسرائيلية» جزءاً لا يتجزأ من إعلانها. لكنّ المشكلة أنها حاضرة بوصفها تفصيلاً من تفاصيل الإعلان؛ بينما هي أساسه ورافعته! فحتى يكون إعلان الدولة خطوة لدفع المجتمع الدولي على طريق الاعتراف الفعلي بها، لا بد أن يأتي ضمن سياق من تصاعد التحرك الشعبي الفلسطيني ضد الاحتلال لنيل الاستقلال. أما الاعتقاد بأن إعلانها سيدفع الشعب الفلسطيني إلى التحرك، فأقرب ما يكون إلى الاعتقاد بأن تعطيل حركة الطيران في المطارات من شأنه إحداث عاصفة ثلجية طالما أن حدوث عاصفة ثلجية يعطل الملاحة الجوية. إذاً قبل التفكير ببديل فوقي عن المفاوضات التي أوصلتها إسرائيل إلى طريق مسدود، وحتى يكون هذا البديل راسخاً على أسس متينة عندما يقوم، لا بد من معرفة ما يمكن أن يحرك الشعب الفلسطيني في ظل الأوضاع القائمة الآن وعلى المدى المنظور. لقد باتت حركته ضد الاحتلال بالحدود الدنيا، ولأنها كذلك نراها لا تؤهله لانتزاع ما لا تقبل به الحكومة الإسرائيلية.. فهل استكان؟ كلاّ، لأن الشعب المحتل لا يستكين... لكنه يمر الآن بمرحلة من التخبط واليأس. فمنذ تأسيس السلطة، ومعظمه يتخيل نفسه يعمل على إقامة الدولة الفلسطينية ضمن حدود ال67؛ وظلت مشروعاً واقعياً طوال مرحلة مزاوجة قيادته السياسية بين نهجي المقاومة المسلحة والمفاوضات. ولما نجحت إسرائيل بشق هذين النهجين، واستقرا على طلاقٍ بائن في بيتين مستقلين تحرص على استمرار انعزالهما، شعر الفلسطينيون أن جنين دولتهم قد مات. فهل هذا الشعور دليل حقيقي على موته، أم مجرد مرحلة عابرة سرعان ما يتجاوزونها؟ لا جواب على هذا السؤال بالتأمل. فطالما أن ظروف الصراع لما تخلق بديلاً واقعياً عن مشروع الدولة الفلسطينية، لذا ينبغي العمل على استشعار ما يمكن أن يحرك الشعب الفلسطيني في الداخل باتجاه استعادة ثقته بهذا المشروع كمقدمة للبناء عليه. والقادر على ذلك هم الناشطون الفلسطينيون في الميدان، ومنهم لجنة المبادرة الوطنية الفلسطينية، وأمينها العام الدكتور البرغوثي. لا شك في أن هذه المهمة، الاستشعار، ليست سهلة ولا يمكن تحقيقها بوقت قصير. فالشعب الذي عاش حياة مديدة من المعاناة في ظل الاحتلال، بلغ مرحلة أيقين فيها من الاستقلال عبر بديلي المقاومة – المفاوضات، لكنه فشل. لذا ليس سهلاً نهوضه، وأشق منه عملية استنهاضه. ولكنه مرّ بمرحلة مشابهة من اليأس، وربما أشد، وأبدع انتفاضة الحجارة بفعل نشطاء وكوادر معظمهم مغمور. والبديل الحقيقي عن المفاوضات هو من قبيل فعل أولئك الكوادر والنشطاء، الذي سيبدع بفضلهم شكلاً جديداً للنضال. * كاتب سوري