من قال إن قيمة الفرد في تمام حواسه؟ ومن يزعم أن كل من يباهي بتمام حواسه واكتمالها خالٍ من الإعاقة؟! ثم ما حاجة الفرد بتمام حواسه مع تعطُّل عقله؟ وما فائدة المجتمع منه إذا اكتملت حواسه وانعدمت مواهبه وعظم شره؟! لا أظن أن مجتمعاً عاقلاً يباهي الأمم بأجسام البغال وأحلام العصافير، ولا أظن مجتمعاً يمكنه أن يتقدم بمن أعاقوا أنفسهم عن المشاركة في مسيرة النماء البشري، وعطّلوا عقولهم عن التفكير، وجمّدوا مواهبهم وحواسهم عن تلمس أسباب النجاح في الحياة، هؤلاء هم المعاقون حقيقة، المنعَّمون على حساب غيرهم، الخاملون في مضمار النبوغ، السائرون في مواكب الغريزة، الصاعدون إلى سدة الوهم الكذوب المضلِّل، إنهم الفاشلون المحبطون الكسالى؛ بلا هدف يعيشون ولا رسالة، يمتصون رحيق حياةٍ ليسوا معنيين بصنعها، يأكلون خبزةً لا يستحقونها، ويقتاتون على نبتة الحياة التي لم يرووها بعرقهم، حتى صاروا كجملةٍ لا محل لها من الإعراب، أو كلفظةٍ زائدة على حاجة المعنى، أو كجرثومةٍ هي الداء لا الدواء، هؤلاء - بلا شك - عالة على أي مجتمع، وسبب بلائه، أكثر من كونهم أدوات للنفع والإنتاج. المبتلى بالإعاقة إنسان كغيره، له ما له من حقوق وعليه ما عليه من واجبات، هو ابن هذا المجتمع، يشعر ويحس كغيره وإن تعطَّلت فيه حاسة من الحواس، من حقه أن يعيش، وأن يمارس الحياة كاملة، وأن يثبت ذاته فيها، وأن يُعطَى الفرصة كاملة لاستثمار مواهبه، وهو مثل بقية البشر له تطلعاته وأحلامه، وله - كغيره - ذاتٌ زاخرةٌ بشتى ألوان الطموح والآمال؛ هو يأسى ويأسف كما نأسى ونأسف، يفرح ويزهو كما نفرح ونزهو، وله النفس التي تئن أو تطمئن، تهفو أو تميل، تشقى أو تسعد، تحب أو تكره، وله صدر زاخر بقيم إنسانية يؤمن بها وتربى عليها، له قيمه ومبادئه، وله عهده ووعده وشرفه، له كلمة يراهن عليها وإن لم ينطق بها أو يسمعها، غير أنه طاقة وإرادة، عقل وبصيرة، يمكنه أن يعمل - بقدر ما لديه من حواس - في العمل الذي يتناسب وقدراته الحسية والعقلية، ويمكنه أن يتفوق في مجالات فكرية وعملية كثيرة. ويمكن للمجتمع - في إطار هذه النظرة إلى المعوق - أن ينمو بأبنائه المبتلين وأن يأخذ بعقولهم نحو النور لا الظلام، وبنفوسهم نحو السعادة لا الشقاء، وبحواسهم نحو استغلالها وتشغيلها لا وأدها على ما بها من نقصان. ألا يكفي أن ننظر في صفحات التاريخ لنرى إلى أي مدى كان المبتلون بالإعاقة أصحاب فضل على البشرية، بما حققوا من نبوغ وتفوق في مجالات الفكر والفن والمهن أيضاً، وبما قدموا للبشرية من ابتكارات واختراعات ومؤلفات؛ ليتأكد لنا أن ابتلاءهم لم يكن عائقاً عن النبوغ والتفوق بقدر ما كان شحذاً للهمة والإرادة، ومحكاً للصراع والتحدي، ودافعاً للصمود وإثبات الذات، وفي التاريخ الحديث نماذج من هؤلاء العظماء، الذين أضاؤوا ساحات العلم والمعرفة والأدب والفن؛ وفي التاريخ الإنساني نماذج نابغة عدة تجِلُّ عن الحصر عاشت رهينة إعاقتها، لكنها انطلقت إلى آفاق لا تحد من النبوغ والتفوق، وإذا ما نظرنا في صفحة الحاضر نجد في مجتمعنا آلاف المبتلين، الذين لم يمنعهم نقص أعضائهم الجسدية أو حواسهم عن نبوغ عقولهم وتحقيق طموحاتهم؛ ثمة كثير منهم في مجالات العلم والأدب والاختراعات والابتكارات والمقاومة، يجوبون ساحات الأكاديميات والمؤسسات العلمية بكثير جد وإصرار ودأب، كثيرون منهم أصحاب مشاريع خاصة، استطاعوا تأكيد مواهبهم؛ فملأوا الدنيا نجاحاً ومجداً وأثراً طيباً. إن المجتمعات الإنسانية المتحضرة تضع المعوق موضعَه الصحيح في مسيرة النماء، وتعطيه حقه من الرعاية والتربية بقدر حاجته إليهما؛ لكي يسير في مصاف العاملين لا العاطلين، والنابهين لا المغبونين، وما أحسبنا أقل من ذلك فنحن أصحاب الحضارة العربية الإسلامية التي سادت في التاريخ، وهي حضارة لها ركيزتها من القيم الإنسانية العظيمة، وما أحسب أننا أقل حضارة من غيرنا وإن تعطل الأخذ بالأسباب!... كل ما علينا هو أن نغير من ثقافتنا ونظرتنا إلى هؤلاء المبتلين لنرى فيهم النجاح كله، والخير كله، والنبوغ كله، ولنكن معهم - لا عليهم - وهم يخوضون غمار الحياة بدأب وإصرار، فلا أقل من أن يرعى المجتمع أبناءه المبتلين، الذين ينتظرون منه الدعم المادي والمعنوي؛ ليكونوا منتجين ومبتكرين وفاعلين، وليس أقل من أن نُجِلَّ هؤلاء الذين أحبهم الله فابتلاهم وأعظم أجرهم. [email protected]