شهد المسرح البريطاني في العقد الماضي تسييساً واضحاً في عروضه الداخلية إضافة الى العروض الأميركية الزائرة التي صبت في اتجاه استلهم «الحرب على الإرهاب» في أفغانستان والعراق، والحياة في معتقل غونتانامو، والصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. وكأن المسرحيين، وبينهم كتاب كبار أمثال ديفيد هير والراحل هارولد بنتر، لم يحيّدوا أنفسهم حيال ما يحدث في العالم، فعبّروا عن الوجه الآخر لبلادهم التي تسيّر الآلاف في مسيرات شعبية احتجاجاً على حروب تخوضها حكوماتها، أو قضايا خارجية لا تتخذ فيها موقفا صارماً. هذا النوع من التسييس في العروض دفع المعلقين الى القول بأن «الصحافة تتم الآن على خشبة المسرح». «بلاك ووتش» واحدة من تلك المسرحيات التي لفتت الأنظار منذ عرضها الأول في مهرجان أدنبره في عام 2006. وقد عدت واحدة من أنجح المسرحيات التي أنتجها مسرح اسكتلندا الوطني بعد أن حققت نجاحاً نقدياً وجماهيرياً كبيرين، الأمر الذي شجع إدارة المسرح على إعادة عرضها أخيراً في لندن، بينما تستعد الفرقة للقيام بجولة ثانية في بعض الولايات الأميركية. عنوان المسرحية مستمد أساساً من اسم فرقة مشاة بريطانية عريقة تدعى (بلاك ووتش) ينتمي جميع أفرادها الى مقاطعة اسكتلندا. كتب النص المسرحي غريغوري بورك بعد أن أجرى مقابلات خاصة عام 2004 مع أفراد الفرقة الذين شاركوا في حرب العراق. ويناقش العرض معنى أن يكون الجندي جزءاًَ من مجموعة عسكرية تشارك في حروب بعيدة تحت مبررات مثل «الحرب على الإرهاب». تراوح مشاهد النص ما بين الوطن والعراق، وان كانت غالبية المشاهد تحدث في أماكن تجمعاتهم ومواقعهم في ساحة القتال، ليجد جمهور المسرحية نفسه وجهاً لوجه أمام مشاهد حربية يراها عادة في الأفلام الوثائقية والروائية، إلا ان المخرج جون تيفاني كان جريئاً بما فيه الكفاية لينفذها على خشبة المسرح، وبعضها كان ليلياً. الجانب الوثائقي في العرض كان واضحاً، وتمثل بكتابات صحافية تظهر في خلفية الخشبة، ومقاطع فيديو لتصريحات مسؤولين بريطانيين وأميركيين غير مقحمة على المسرحية، أعيد أداء بعضها على الخشبة تزامناً مع مقطع الفيديو. يذكر التوثيق بأن أحداث العرض ليست تخيلاً محضاً، وتدعم هذه الرؤية ظهور المؤلف كشخصية من شخصيات النص – يقوم بدوره ممثل - وتسجيله شهادات الجنود، حيث تظهر نبرة العبثية في ردودهم والغضب المبطن بالسخرية من مشاركتهم في تلك الحرب. تكسر المقاطع الغنائية الاستعراضية حدة الملل الذي قد ينشأ من الحوارات الكثيرة حول موضوعات جافة، مثل الحرب والخدمة العسكرية، أو الحكي عن تاريخ فرقة (بلاك ووتش) التي تأسست في عام 1739 وساندت الكثير من الحروب التي خاضها ملوك المنطقة مراكمة تقاليد بعضها بيروقراطي، منها تسلسل عائلات معينة في الفرقة خدم أسلافها ملوك المنطقة، هؤلاء تميزوا بنبرة فوقية على غيرهم من أفراد الفرقة، فهم من القادة. ويتم تشجيع الشباب للانضمام من طريق إغراء الترحال لرؤية العالم، ووفرة المال، ويذكّر أحد الجنود مسؤوله بالدفاع عن «عزة الوطن»، فيتذكّرها هذا بارتباك. سرد تاريخ الفرقة هذا يتم بحوار غنائي يرافقه تغيير ملابس الجندي السارد بخفة وسرعة كلما تغيرت الإشارة الى الحقب التاريخية وزمن الملوك والحروب، مثل مشاركة الفرقة في الحروب الأهلية في أميركا، في كندا وأوروبا ومنطقة الشرق الأوسط بما فيها مصر وفلسطين وسورية. هذا المشهد هو من أصعب المشاهد ويؤديه مجموعة من الممثلين، فالحركة على خشبة المسرح مدروسة ولا تقع في التكرار، يصاحبها الحوار المغنى والموسيقى المستوحاة من التراث الاسكتلندي. ومن المشاهد الأخرى الجميلة في حركيتها على الخشبة، وصول رسائل للجنود وقراءتهم لها بتعابير متنوعة في مشهد خال من الحوار على وقع خلفية موسيقية مأخوذة من الفيلم الألماني «وداعاً لينين». وننوه بمشهد آخر خال من الحوار، يسقط فيه جرحى وقتلى بين الجنود إثر قصف طائرات، فيحملهم زملاؤهم ويتابعون سيرهم على خلفية أغنية اسكوتلندية حزينة. تلقى المسرحية الأكثر نجاحاً بين عروض مسرح اسكتلندا الوطني، ترحيباً في كل مكان تعرض فيه، وقد شاهدها حتى الآن ما يقرب من المئة والخمسين ألف متفرج. كاتبها على جائزة أفضل نص مسرحي جديد من قبل اتحاد الكتاب في بريطانيا عام 2008 ، فقد تمكن من التقاط لبّ هذا التكوين في الجيش، مركزاً على الذكورية العالية التي تسم علاقة أفراد الفرقة ببعضهم بعضاً: مفردات خارجة، مزاح يقترب من العراك لأتفه سبب، ورغباتهم الجنسية المكبوتة المتمثلة بصور إباحية على جدران غرفهم وأفلام بورنو يشاهدونها في أوقات فراغهم. وهكذا، بينما تشارك فرقة (بلاك ووتش) عسكرياً في أكثر من مكان في العالم، تجول فرقة مسرحية بعرض يحمل الاسم نفسه ناشرة الفن الراقي معارضة دور الفرقة في حروب خارج الوطن. الخلاصة قيلت في العرض على لسان احد الجنود في شهادته أمام المؤلف: «لا أحد يريد أن يكون في الجيش بعد تلك التجربة».