سبق تكليف الرئيس نجيب ميقاتي تأليف الحكومة اللبنانية الجديدة إثر نيله تأييد 68 نائباً بعد ظهر أمس، يوم غضب شعبي تضامناً مع الرئيس سعد الحريري في مناطق عدة من لبنان لم تخل من أعمال شغب واعتداءات على إعلاميين وصولاً الى إحراق سيارة نقل مباشر لمحطة «الجزيرة» في مدينة طرابلس التي بدا أن التحرك الشعبي فيها هو نقطة الارتكاز للاحتجاجات التي طاولت مناطق شمالية أخرى وبيروت وصيدا وإقليمالخروب والطريق الساحلية الى الجنوب والبقاع الغربي والأوسط. وقطعت الطرقات بالدواليب المشتعلة، ورفعت شعارات الاستنكار لإبعاد الحريري بفعل انقلاب أصوات الأكثرية التي كان لواؤها معقوداً للأخير، نحو مرشح المعارضة و «حزب الله» ودعم سورية، وطالب بعض هذه الشعارات ميقاتي بالتنحي. ورد ميقاتي بعد تكليفه من قبل رئيس الجمهورية ميشال سليمان بأن يده ممدودة الى الجميع، مؤكداً ان لا كيدية لديه معتبراً ان الخروج من الوضع الدقيق الذي نعيشه يتطلب خطوات غير تقليدية، مشدداً على الحوار الوطني الذي تطرح فيه كل المواضيع الخلافية، وقال ان نتيجة الاستشارات ليست انتصاراً لفريق على آخر بل هي انتصار للاعتدال على التطرف. وإذ عكس التحرك الشعبي الذي حصل امس وأدى الى شل الطرقات الرئيسة في البلاد فخلت الشوارع من السيارات والمارة في مناطق عدة، عمق الأزمة السياسية وحجم الاحتقان في الشارع ولدى جمهور الحريري، احتجاجاً على إسقاطه، فإن أبعاده السياسية لا بد من ان تؤخذ في حسابات تأليف الحكومة التي تبدو مهمتها الأساسية فك ارتباط لبنان الرسمي بالمحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي قال ميقاتي ان الموقف منها سيُعالج بالحوار. وساهم الحريري بعد ظهر امس في لجم التحرك الشعبي ومظاهر الانفلات، في عدد من المناطق، خصوصاً أن أنصاره نزلوا الى الشوارع بقرار تلقائي، والتحرك الوحيد الذي حصل بقرار مركزي من تيار «المستقبل» كان في مدينة طرابلس التي شهدت حشداً بالآلاف، إضافة الى حضور نواب وقياديين ألقوا كلمات هاجمت «حزب الله» والسياستين السورية والإيرانية. ووجه الحريري نداء متلفزاً الى اللبنانيين أعلن فيه رفضه «الكامل لكل مظاهر الشغب والخروج على القانون التي شوهت الأهداف الوطنية النبيلة لهذه التحركات». وتوجه الحريري الى أنصاره بقوله: «كان دافعكم التعبير عن موقف سياسي اعتراضي يشكل جزءاً من المسار الديموقراطي الذي اخترناه معاً والذي نؤمن أنه المسار السليم الذي لا يجوز التخلي عنه مهما بلغت حدة الانفعالات». ونبه الى «مخاطر الانجرار وراء بعض الدعوات المشبوهة»، قائلاً إن «طرابلس قالت كلمتها ومعها كل الشمال وهناك من أراد لهذه الكلمة ان تحترق في عمل مشبوه ومرفوض. كونوا حذرين...». وأتبع الحريري نداءه ببيان استنكار لأعمال الشغب والتعديات التي استهدفت المؤسسات الإعلامية. وفيما يبدأ الرئيس المكلف مشوار تأليف الحكومة بزيارات تقليدية لأسلافه اليوم وهم الرؤساء رشيد الصلح، ميشال عون، عمر كرامي، فؤاد السنيورة ثم الحريري ويتصل بالرئيس سليم الحص الموجود في المملكة العربية السعودية، فإن المشاورات النيابية الرسمية لعرض مواقف الكتل النيابية المختلفة من الاشتراك في الحكومة تبدأ غداً الخميس. وإذ أعلن الحريري قبل يومين رفضه المشاركة في التركيبة الحكومية الجديدة مع حلفائه في قوى 14 آذار، فإن الأمين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصرالله قال في خطاب ألقاه بعد ظهر امس إن «من يرفض المشاركة في الحكومة يريد السلطة لوحده». ودعا نصرالله الى تشكيل حكومة شراكة ورفض القول ان «حزب الله» هو الذي يقودها، وأكد ان ميقاتي رجل وسطي والمعارضة لم تكن تريد ان تدخل معركة كسر عظم مع الفريق الآخر وأن لديها تحفظاً عن شخص محدد لرئاسة الوزراء، لكنها ليست في وارد الإلغاء أو الشطب. وكانت الاستشارات النيابية انتهت بعد ظهر امس وشهدت انضمام نائب جديد اضافة الى 7 نواب بقيادة النائب وليد جنبلاط وميقاتي وأحمد كرامي الى الأكثرية الجديدة هو الوزير محمد الصفدي الذي سمى ميقاتي، إلا ان النائب الشمالي قاسم عبدالعزيز انفصل عنه وسمى الحريري الذي حاز 60 صوتاً. وتعددت التكهنات بشكل الحكومة التي سيشكلها ميقاتي في ظل صمت أوساطه إزاء ذلك، خصوصاً ان اتصالاته مع الفرقاء لم تبدأ رسمياً بعد، فيما أوضحت مصادر مطلعة ل «الحياة» أنه يأمل بتغطية سياسية من بعض القيادات الإسلامية ومشاركة جنبلاط في حكومته. ولم تستبعد أوساط سياسية أن يلجأ ميقاتي الى معالجة تكاثر مطالب كتل المعارضة الى حل يقضي بتطعيم تشكيلته بعدد كبير من الوزراء التكنوقراط «تجنباً للوجوه الاستفزازية»، وتنفيذاً لوعده بمد اليد وعدم اللجوء الى الكيدية. إلا ان هذا يتوقف على موقف الكتل المعارضة ومطالبها، ولا سيما العماد ميشال عون والرئيس نبيه بري، فيما كثرت الإشارات الى ان «حزب الله» لن يصر على تمثيله بقياديين منه لإبعاد الصيغة التي اتهمت بها الحكومة بأنها بقيادة الحزب وتحت سيطرته. وفي المقابل، قالت مصادر في «تيار المستقبل» ان التحرك الشعبي كان ضرورياً لأسباب عدة، على رغم انه خرج في بعض المناطق عن طابعه السلمي والديموقراطي الذي دفع الحريري الى توجيه كلمته للبنانيين من اجل ضبط حركة الشارع والإبقاء عليها في إطار تنفيس اجواء الاحتقان المترتبة على التداعيات التي رافقت عملية التكليف. وعن خلفيات التحرك وأبعاده أكدت المصادر انه كان بمثابة رسالة مزدوجة للداخل وفيها إظهار الحجم التمثيلي للرئيس المكلف بما يدل على ان تسميته جاءت خلافاً لإرادة الشارع، وللخارج من ان التحرك الشعبي يعكس حقيقة التمثيل الشعبي للحريري، إضافة الى دفع المرشحين لدخول الحكومة الجديدة الى التهيّب من رد فعل الشارع والتفكير ملياً قبل ان يتخذوا قرارهم. وأكدت المصادر ان لا مجال للمشاركة في الحكومة الجديدة، مشيرة الى انها لن تقع في فخ العروض التي يراد منها انتزاع موافقة «المستقبل» على المشاركة لإقحامه في لعبة الاختلاف على توزيع الحصص لإيهام الرأي العام لاحقاً بأن المشكلة في التوزير وليست في الموقف السياسي من وظيفة الحكومة ودورها ومدى قدرتها على بسط سلطة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها وتنفيذ ما كان أجمع عليه مؤتمر الحوار الوطني بخصوص جمع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وضبطه وتنظيمه في داخلها، إضافة الى منع السلاح الموجود خارج نطاق المقاومة. وسألت المصادر عن موقف الرئيس المكلف من المحكمة الدولية وهل يستطيع الخروج عن إرادة حلفائه بوقف التعاون معها ووقف تمويلها وسحب القضاة اللبنانيين منها؟ وقال الرئيس ميقاتي في مقابلة مع وكالة «فرانس برس» بعد تكليفه: «منذ ترشحي أصبحت في حاجة الى كل صوت في المجلس النيابي لكي اصل الى مرحلة التسمية وأكون الرئيس المكلف ثم رئيس مجلس الوزراء ومن الطبيعي أن أسأل «حزب الله» أن يؤيدني لأن له كتلة كبرى في البرلمان». وأضاف: «إذا صوّت لي الحزب هل هذا أصبح نوعاً من العيب؟». وقال إن التسمية (من حزب الله) طبيعية «ولا تلزمني في الوقت الحاضر بأي موقف سياسي يلتزمه الحزب سوى التمسك بحماية المقاومة الوطنية». واعتبر انه «لا يجب الحكم عليّ مسبقاً أو على تصرفاتي لا سيما من المجتمع الدولي». وعن مدى استعداده لرفض المحكمة وسحب القضاة اللبنانيين منها ووقف تمويلها، قال ميقاتي «وقف المحكمة لم يعد قرارا لبنانيا». واضاف ان «مسألة التعاون معها امر آخر. وقبل التسرع في قول اي شيء، علينا ان ننظر في الملف مجددا، وندرسه لنرى ما اذا كان هناك اي مسالة خلافية فيه، وبعدها سنحلها بالحوار». ورداً على تعبير واشنطن عن قلقها إزاء الوضع اللبناني بعد تسميته، قال ميقاتي: «واشنطن مهمة جداً بالنسبة إليّ. لا يمكن إلا أن تكون لنا علاقات جيدة، وأتمنى أن يبقوا على دعمهم للبنان». وكان وفد من مجلس المفتين في دار الفتوى زار الرئيس ميقاتي وسلمه نسخة عن البيان الذي أصدره المجلس الأحد الماضي وأبلغه تمسكه بجميع البنود الواردة فيه (حذّر من تجاهل الأكثرية والأكثرية السنية ومن تجاوز الأسس الدستورية والميثاقية). وعلمت «الحياة» من مصادر الوفد أن ميقاتي قرأ البيان وأبلغ الوفد انه متمسك به «وفي حال مخالفتي لأي بند فيه عليكم أن تنبهوني وأنا حاضر لكل ملاحظة». وكان امتداد يوم الغضب الذي أعلنه نواب طرابلس وقيادة تيار «المستقبل» فيها الى الطريق الجديدة ومستديرة الكولا ومحلة قصقص في بيروت والطريق الجنوبية الساحلية في بلدة الناعمة، والطرقات الرئيسة في إقليمالخروب، وصيدا، والبقاع، شهد كراً وفراً بين الجيش ومجموعات الشبان التي نزلت الى الطرقات لقطعها بالإطارات المشتعلة، وحصلت في بعض الحالات مواجهات بين هؤلاء وبين الجيش الذي اضطر الى توقيف بعضهم بعد أن كان تعامل معهم بروية متجنباً الصدام وإياهم. وإذ تحدثت المعلومات عن وقوع جرحى في بعض المناطق، فإن المتظاهرين كانوا يعودون الى قطع الطرق بعد أن يفتحها الجيش. وهذا ما اضطر الحريري الى إرسال مسؤولين في تياره ومن فريق الحراسة التابع له من اجل إقناع الشبان المتجمهرين بالانسحاب من الشارع في عدد من المناطق، بعد أن رشق بعض هؤلاء الجيش بالحجارة ما اضطره الى إطلاق القنابل المسيلة للدموع على تجمعهم، وأحرق المتظاهرون في طرابلس مكتباً للوزير الصفدي. وشهدت بيروت مساء تجمعاً شبابياً وسياسياً سلمياً أمام ضريح الرئيس رفيق الحريري في وسط بيروت. وقال النائب مروان حمادة: «جئنا الى هنا لنقول للرئيس ميقاتي ألا يقع في الفخ الذي نصب له». وليلاً أكد مصدر أمني رسمي ل «الحياة» أن وحدات الجيش اللبناني المنتشرة بكثافة عملت على فتح كل الطرقات التي قطعت وأزالت العوائق التي استُخدمت لإقفالها. وكشف أن عشرات العسكريين أصيبوا بجروح جراء رشقهم بالحجارة ورمي القنابل الدخانية عليهم، لكن وحدات الجيش تمكنت من السيطرة على الوضع واستيعاب ردود الفعل. ونفى المصدر أن يكون الجيش أوقف أحد مرافقي الحريري وقال إن هناك عدداً من الموقوفين يجري التحقيق معهم، مشيراً الى أن بعضهم كان يستعد للقيام بأعمال شغب. وكانت الخارجية الفرنسية أصدرت تعليقاً على تكليف ميقاتي، أشارت فيه الى أنها «أخذت علماً بالأمر»، وحيت عمل حكومة الوحدة الوطنية التي ترأسها الحريري و «شجاعة» الأخير و «تصميمه وعمله بكرامة». وقالت مصادر فرنسية مطلعة إن باريس أجّلت الزيارة التي كانت مقررة غداً لرئيس مجلس النواب برنار اكوييه لدمشق.