بعد 23 عاماً من «ثورة الياسمين» الاولى التي قادها بن علي لإطاحة «والد الأمة»، الحبيب بورقيبة، اضطر بن علي الى ترك السلطة في تونس، وهرب الى خارج البلاد على وقع «ثورة الياسمين» الثانية الجديدة. والى وقت قريب، بدا أن نظام «الديموقراطية الموجهة» مستقر، وبرزت تونس مزدهرة مقارنة ببلدان افريقيا الشمالية الاخرى. فالمؤشرات الماكرو – اقتصادية كانت جيدة، وشهد القطاع الخاص تطوراً ملحوظاً. والقوى الاسلامية أُقصيت خارج السياسة، ودمرت مؤسساتها من غير اللجوء الى اعدامات او تصفيات دموية ضد المعارضة. وأصبحت تونس دولة علمانية، وتحالفت مع الغرب في مكافحة تنظيم «القاعدة». والحق ان الديموقراطية في تونس لم تكن راسخة. فالمحافظة على التعددية كانت شكلية. وفرضت الرقابة على أنشطة احزاب المعارضة ووسائل الإعلام، والقضاء لم يكن مستقلاً. وأحكام المحاكمات، خصوصاً السياسية منها، تهبط من الاعلى. وتذرع بن علي بمخاطر النزعة الاسلامية وتهديداتها لبعث مبدأ «الإبقاء على الرئيس». واليوم، نرى أن بن علي وجّه الديموقراطية التونسية ليرسي نظاماً أوتوقراطياً فاسداً. ولم تخفَ مواضع الخلل في خصائص «الديموقراطية الموجهة» على المراقبين الغربيين. ولكن هؤلاء لم يحركوا ساكناً. فهم رأوا أن استقرار تونس السياسي يعوض عن نقص الديموقراطية. ومن أبرز اسباب «ثورة الياسمين» الفساد والبطالة. ولكن المطالب الاجتماعية سرعان ما استبدلت بمطالب سياسية موجهة ضد «الرئيس الذي لا يستبدل». ومصدر الخطر اليوم هو احتمال اطاحة انجازات النظام المنهار، وبعضها حداثوي. وتونس رائدة التحديث في العالم العربي. وأفريقيا الشمالية وثيقة الارتباط بالاتحاد الاوروبي. وفوز الاسلاميين في الانتخابات المقبلة هو من ابرز المخاطر. وتتحمل الطبقة السياسية التونسية مسؤولية كبيرة في الحفاظ على انجازات الماضي، وإطلاق عملية سياسية لانقاذ البلد انقاذاً لا يفرط بالتحديث. ويصعب اعتبار انهيار النظام في تونس دليلاً على انتصار الديموقراطية، على رغم اعلان المعارضة انها ستكون ليبرالية ديموقراطية. فبن علي كان ايضاً اصلاحياً – ليبراليا. وأغلب الظن أن يتربع نظام سلطوي محل نظام سلطوي آخر. وبعث انهيار نظام بن علي قلق الاميركيين وعدد من الانظمة العربية التي تعاني من مشكلات شبيهة بمشكلات تونس، مثل الجزائر ومصر. وهذه 50 في المئة من سكانها فقراء، و20 في المئة يعيشون تحت خط الفقر. ولعل مرد المشكلة الى ان ثمة «عقداً اجتماعياً» بين السلطات والمجتمع في الدول هذه قوامه تأمين العمل والطعام للمواطنين لقاء الإحجام عن المشاركة في السياسة. ولكن استمرار ارتفاع اسعار المواد الغذائية عالمياً يجعل من العسير على الدول دعم المواد الغذائية نظراً لإمكاناتها المالية المحدودة. ولا يسع قدرات الدول هذه، المتواضعة تأمين فرص العمل المطلوبة، في وقت ترتفع معدلات الولادات. ولا مفر من أن تؤدي العوامل هذه الى هزات ضخمة. والاصلاحات العميقة ضرورة لا غنى عنها في مثل هذه الظروف. ولكن الاحوال القائمة هي تربة خصبة لنمو النزعة الاسلامية. فالاسلاميون قادرون على اقناع كثر بأن كل مصائبهم مردها الى عدم التزام المجتمع تعاليم «الاسلام الصافي». وحريّ بروسيا ومؤسساتها درس اسباب الازمة الحاصلة في تونس ونتائجها والاعتبار بدروسها. * رئيس اللجنة الدولية في المجلس الفيديرالي الروسي، عن «روسيسكيا غازيتا» الروسية، 18/1/2011، إعداد علي ماجد