رواية «أخضر يا غصن القنا» لمحمود تراوري تنهل في هيكلتها من مخزون متشابك من الحقيقي والأدبي والسحري والساخر والمأسوي والملهاة والواقعي والملحمي. ذلك التشابك المندس بين السياسي والعقائدي، وبين يوتوبيا الحلم الإنساني المشتهى، لتصيّر القارئ وكأنه كاميرا بيولوجية تتنقل مع إرادة الحكاية المتأرجحة أصلاً بين أبعاد زمنية متفاوتة بتقنية استعادية «فلاش باك» واستعادية مزدوجة «فلاش باك مركب». لتحمل في ثناياها نقاشاً لمسألة الاسترقاق والعبودية، ونزوع الإنسان الى الاستعباد والسخرة، بل انها تطرح أسئلة تتجسد في: هل الواقع المؤلم الذي يعيشه الإنسان يحدث بسبب إرادة حتمية؟ أم أنه نتاج للفعل البشري وللغايات الدنيوية التي يسعى إليها؟ هل النقص الذي يعتري وجود الإنسان نتاج طبيعي أم إنساني؟ تلك مسائل فلسفية تحوم حولها الرواية في أفلاك إهليجية تدنو وتنأى من مركزية النقاش، تقترب فتلامس وتبتعد فتتلاشى. لكنها تصب في تحميل الإنسان المسؤولية الكاملة، بنزوعه نحو التوسع الإمبريالي أو نحو الإمبريالية ذاتها. «ويباشر حلم مارتن لوثر كينج بالتحقّق على أرض الواقع. كان نيان يقولها طرباً: «آي هاف آ دريم». «تداخل وجها إيْميلي وميري، وجوه الحراطين، والحقاوية والخضر العالقون في أكواخ الكرنتينا». وبدايةً من الكلام والأهازيج الشعبية، يقطف أبناء الحارة الحجازية ترانيم المزمار، ومن حياضه يَغرِف الزومال نحيبه ويستل الكاتب عنوان روايته، «أخضر يا عود القنا» في كناية وصفية عن الرجل الأسود ب«الأخضر»، الأفريقي الأسود والخضر: الأفارقة، قبل أن تشتق تسمية المحافظين على البيئة، هم شعوب اكتسبوا الدلالة الإيحائية لمسماهم من صفاتهم الإنسانية، المتماسة مع عطاء الزرع الأخضر الواهب للحياة، كناية تذكر بأصل خلق أبو البشر آدم أسود من أديم الأرض التي أصبحت تخرج النبات الأخضر (فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً)، لتنبت أناساً خضر. والعبارة بهذه المجازية الشعبية ترمي الى قول تغزّل وتدليل في البيئة المكية تقال للفتاة الجميلة الشابة السمراء الرشيقة، أو للفتى الوسيم الغض الداكن البشرة. (كان الأخضر يتيه في كبرياء خلاق، لم تحظ البشرية بمشاهدته أبداً مذ كان الطوفان، حين تحامق يافث، وظنّ أنه سيؤوي إلى جبل يقيه الماء «هذا المشهد صعب جدا في السيناريو»، ثم إن الذي تحامق ليس يافث، ربما الذي رأى في الماء عاصماً). الرواية تحكي عن مجريات رحلة قام بها منتج سينمائي حجازي من مكة «عبدالودود» وهو (سيناريست ومخرج ومنتج فيلم وثائقي يعد له) مع معاونه المصور «بدر» البطل المزمع قيامه بالدور الرئيسي في فيلم يصور في أقصى الغرب الأفريقي، اذ تستلقي السنغال على ضفة الأطلسي، وهناك في فندق نوفوتيل بمدينة داكار تدور الأحداث، فيلتقي ودود وبدر ب«فالو» الأستاذ الجامعي الذي سيرافقهم الى جزيرة غوري، الجزيرة التي تم شحن نحو 120 مليون أسير عبرها، انتزعوا من أرضهم وأحلامهم وذاكرتهم ورحِّلوا صوب مزارع القطن وحقول الذرة والتبغ والمصانع في أوروبا وأميركا في قصة إنسانية بالغة الوحشية، لم يجرؤ أحد على الاعتذار عنها. «ونمضي معاً مُطرقين، ونظراتنا حائرة قبل أن نقف إلى جوار نصب تذكاري أقيم في أحد شوارع الجزيرة، ونستمع معاً إلى مرشد سياحي، يشير بيديه، متحدثاً بخطاب تسوّلِي فج: هذا تمثال يعبّر عن الرقِّ، نُفِّذ بواسطة فنان من جزر المارتينيك اسمه جوادولوبو. تبرز تحت التمثال المكوّن من رجلٍ وامرأة تفكّ قيوده طبلٌ كبير. كانت الطبول تستخدم لجذب الناس وخروجهم من مخابئهم فيتم اختطافهم. حدث هذا في نقاط متفرقة من غابات الخضر. ويصف الراوي جزيرة غوري فيقول: «غوري» التي كان أول من سكنها من المحتلين البرتغاليون عام 1444، أوّل من بدأ النخاسة وبعدهم جاء الهولنديون عام 1580 ثُمّ الألمان والفرنسيون، بقيت غوري هي الأَشْهَر، وأضحت مزاراً سياحياً يتدفّق إليه ملايين السياح سنوياً، ينتقلون من داكار عبر سفن بحرية في رحلة لا تستغرق أكثر من ربع ساعة، يعيشون تلك المأساة، مستمتعين بطبيعة الجزيرة الخلابة التي ما زالت تحوي تلك المساكن الجميلة التي كان يتمتّع بها المستعمرون جنباً إلى جنب أنين عذابات الترحيل القسري ووحشيته. ينهي المرشد السياحي خطبته. وكان فالو الأستاذ الجامعي المرافق لودود يشير بيده من طرف الحافة الماسة لملح الأطلسي، ويصوّب نحو أميركا: من هنا بيننا وبينهم خمس ساعات فقط، تصوّر، أقصر طريق مائي لأميركا، هذه أقرب بقعة لأميركا. ويهمس ودود «أبداً لا يعنيني كثيراً أن أفهم، ربّما يعنيني أنْ أُحاول أن أعرف، وغالباً أفضّل أن أتأمّل فأطمئنّ، عندما أطمئنّ أحسّني أفهم، فلا تعد تعنيني الثورة الفرنسية، لا روسو ولا فولتير ولا هوغو وفوكو وجاك ديريدا، ولا بورديو، ولا حتّى دوبريه الذي أعشقه كثيراً، مثلما عشقتُ زيدان لفترة توهّمتُ فيها أنّه يُشبهني، ولا جورج ويّا الذي رأيت فيه ايمي سيزار، ومن صخرة بعيدة في كورسيكا، لمحتُ بابيون تحمله الفراشة، لا تعنيني ألوان الفراشات، فهي ليست جزءاً من ذاكرتي، لا تعنيني مصائر داستن هوفمان وستيف ماكوين وهما يحلّقان في الفراشة، ولا ساركوزي الذي جاء من كوّة معتمة في جدار الثورة النبيلة، لا تعنيني قامته التي قصُرَت عن مضاهاة فنارات الأنوار، لا يعنيني أوباما ولا ميشيل التي أشتهيها حيناً، وأتخيّلها حيناً، واحدة من عمّاتي الفارعات/ المتلفعات أبداً، إنّهما في سياق آخر، مختلف تماماً. أستحضر بدراً، وأكاد أخمّن أين هو الآن، بل أكاد أعرف حتّى مشاعر أسلافه. أسترجع صديق طفولتي بكر برناوي، وهو يلحّ على والدته بأن تكون عروسه من خارج الوجع الأخضر، وإلا لن يتزوج، «أريد تحسين النسل». أتساءل «ألهذا أحب اللون الأخضر؟»، وأعرف أنّ بكراً لَم يكُن مخصيّاً، أو أنّ بدراً لم يكن يقصده. أبتسمُ وأنا أسترجعُ وجه أومي وهي تستذكر مقولة موريسون وأعيش لحظة، يعيشها الإنسان دائماً، فيما سفح من أيام. ماضٍ لم نتعلّم منه، تربيتنا على مواءمة شمس كل صباح تتغير، وتعلّم لغة تتيح سهولة إعمار. كلّ ما أعيشه الآنَ استرجاعٌ. كلّ مَن حولِي أجدهم يسترجعون، كأنّما مطارق قويّة هزّت الذاكرة، ولكن دون أن تسيل دماء». وبمنطق الروي ومبرره يجب على جميع الخضر أن يدركوا بلا استثناء المأساة التي عاشها الأسلاف. تقول السينغالية أومي المرشدة السياحية: «لا بُدّ أن نعيش المعاناة التي عانى منها أجدادنا الذين جاء أجداد هؤلاء وخدعوهم، وكانوا يُرحّلون ويُباعون في الخارج، والآن إذا افتخر الغرب بأنه أرض الحضارة وأرض الانفتاح، فإننا نسخر لأننا نعرف أننا شاركنا في تطورهم وتقدمهم وشاركنا في بناء ما يعيشونه الآن». تنتهي الرواية فيبقى ودود وبدر عالقين بالذاكرة، فهي قصتهما وإحدى مغامرتهما المضافة الى حياتهما الحافلة بالتمرد والحب والوعي حياتهما المتداخلة مع كل تلك العوالم.