تمر الصحافة الثقافية في العالم بتحولات جوهرية لا تخطئها العين، فهي صارت، بعد ثورة تكنولوجيا المعلومات وشيوع ديموقراطية التواصل على شبكة الإنترنت، أقرب إلى الأصابع، قبل العقول، إذ تحضر على الشاشة في لمح البصر، من دون حاجة إلى شراء المجلات والصحف وشحنها في الطائرات والسفن لتصل بعد أيام أو ربما شهور! يتحقق ذلك من خلال مواقع لا تحصى، توفر مادتها في جلّ لغات الأرض، وتسعى إلى نشر معرفة مجانية كان البشر في السابق يضطرون إلى دفع ثمنها من قوتهم اليومي، وتحمل ضنك العيش للحصول على تلك المعرفة. الآن أصبحت المعرفة متاحة للجميع، أو على الأقل لمن يمتلك حاسوباً وحساباً في الإنترنت. وقد كان ذلك من غايات إنشاء الشبكة العنكبوتية، كما يشير فيلسوف ما بعد الحداثة الفرنسي الراحل جان فرانسوا ليوتار (1924- 1998) في كتابه «شرط ما بعد الحداثة» (1979). لكن التطور الهائل في توفير المعرفة للقراء بدأ يتحقق عندما قرر بعض الكتاب والمثقفين والصحافيين والعاملين في الأوساط الأكاديمية إنشاء مواقع على الإنترنت تستضيف أهم ما تنشره الصحف والمجلات والمواقع المرموقة من كتابات أدبية وعلمية وفلسفية وتغطيات صحافية ثقافية، ووضعها يومياً بين أيدي القراء. من بين هذه المواقع المهمة بالإنكليزية موقع «الفنون والآداب اليومي» Arts and Letters Daily الذي أنشأه الأكاديمي والفيلسوف والكاتب الأميركي دينيس دتون Denis Dutton (1944- 2010) الذي رحل عنا في الأيام الأخيرة من العام الماضي. كان دتون، المولود في كاليفورنيا، أستاذاً للفلسفة في جامعة كانتربيري في نيوزيلندا لما يزيد على ربع قرن، وقد ألف عدداً من الكتب المثيرة للجدل حول معنى الكتابة والأسلوب والاقتباس والانتحال والسرقة الأدبية، في الأبحاث الأكاديمية بخاصة والكتابة بعامة. وهو كان يفرق بين الانتحال، الذي يدعي فيه الكاتب مادة غيره ناسباً ما اقتبسه لنفسه، والاختلاق حيث يلفق المرء شيئاً ينسبه إلى آخرين. لم يكن دتون، الذي ينتسب إلى عائلة امتلكت سلسلة من متاجر بيع الكتب التي تسمى باسم العائلة، مجرد أكاديمي ومشتغل بالفلسفة، فهو كان من الأسماء اللامعة في الصحافة والإعلام ومؤلفاً مثيراً للجدل خصوصاً في كتابه «غريزة الفن: الجمال والمتعة والتطور الإنساني» (2009) الذي يمثل قراءة داروينية لتحولات الذائقة الفنية. كما حرر دتون المجلة المرموقة «الفلسفة والأدب» Philosophy and Literature التي اهتمت بنشر مقالات ودراسات حول جماليات الأدب والنظرية النقدية والتأويل الفلسفي للأدب. وقد عرفت المجلة بموقفها المحافظ في النظرية النقدية، واستخدمها دتون للهجوم على تيارات النظرية الأدبية الجديدة التي كان يرى أنها تتسم برداءة الأسلوب والكثير من الرطانة غير المفهومة، التي نعثر عليها، كما يقول، في كتابات الناقد ما بعد الكولونيالي هومي بابا، والناقد الماركسي الأميركي فردريك جيمسون، مثالاً لا حصراً. رفض دتون نشر الكتابات التي لا تتميز بنصاعة الأسلوب والوضوح المنهجي والخلو من الرطانة النقدية الشائعة. دفعه موقفه المعادي لنقاد الحداثة وما بعد الحداثة إلى إقامة مسابقة لاختيار الكتابات النقدية الرديئة عام 1995، وتم منحها عام 1998 للناقدة جوديث بتلر، الأستاذة في جامعة بيركلي. لكن أهم حدث في حياة دتون هو تنبهه إلى أهمية الشبكة العنكبوتية في نشر رؤيته الثقافية والفكرية والفلسفية؛ أفضى به تقييمه لمستوى الكتابة الأكاديمية في الغرب إلى إنشاء موقعArts and Letters Daily عام 1998، وبدأ يختار فيه أفضل المقالات المنشورة حول الأدب والفكر والفلسفة والسياسة والمعرفة ومراجعات الكتب، بحسب وجهة نظره، متفحصاً كل يوم ما تنشره المجلات والصحف الكبيرة في العالم الناطق بالإنكليزية عادة، وبعض اللغات الأوروبية الأخرى أحياناً، معطياً تعليقاته وتلخيصاته النافذة لما ينشره. ولهذا وصفته مجلة تايم الأميركية في مقالة نشرتها عام 2005 أنه من «أعمق الشخصيات الإعلامية تأثيراً في العالم كله». ويمكن النظر إلى الموقع الذي اشترته مجلةThe Chronicle of Higher Education من دتون عام 2002، مبقية عليه كمحرر رئيس للموقع، كموسوعة يومية ضخمة تعطي القارئ فكرة عن عالم الثقافة والفكر والعلم والفلسفة والفكر السياسي الراهن. كما أن الموقع يستضيف مواقع عدد من المجلات والصحف وأقسام الأخبار الثقافية في وكالات الأنباء الغربية الرئيسية، مقدماً وجبة معرفية دسمة للقراء. ولحسن حظ القراء أن المجلة صاحبة الموقع أصدرت تصريحاً صحافياً يعد القراء باستمرار الموقع، وقالت إن غياب مؤسس الموقع لن يؤدي إلى غياب الموقع نفسه، وهو الأمر الذي يطمئن القراء أنهم لن يفقدوا تواصلهم مع ما تنجزه العقول من أفكار ورؤى فلسفية وتحليلات ثقافية وسياسية واجتماعية وعلمية عميقة كل يوم.