المنطقة العربية مضطربة. مكشوفة. القاسم المشترك بين جهاتها هو التأزم والخوف. يشم المسافر بين عواصمها رائحة القلق. الهدوء الظاهر لا يكفي لترسيخ الطمأنينة. شيء ما يغلي تحت السطح هنا وهناك وهنالك. لا اريد الوقوع في المبالغات. لا اقصد ابدا اننا عشية انهيارات متتالية. لا اصدق المنجمين. ولا اثق بالاستنتاجات المتسرعة للمحللين المتحمسين. لكن الاكيد ان قلعة الطمأنينة أُصيبت بثقوب لا يمكن سدّها بالعلاجات القديمة. اننا في مرحلة اقسى من تلك التي عاشتها اوروبا يوم استيقظت لتكتشف ان جدار برلين استقال من وظيفته ووجوده. اوروبا كانت تملك في شقها الغربي آليات استقرار، وأنظمة لا يمكن الطعن بشرعيتها، ومؤسسات قادرة على استيعاب الهزات ووضع خطط لحماية الاستقرار وفرص الازدهار. المشهد العربي مختلف. لا يحق للسياسي اللبناني مثلاً ان يتحدث عن معركة «كسر عظم» في لبنان من دون الالتفات الى وضع المنطقة. لبنان ليس جزيرة معزولة. انه جزء من المنطقة بتوازناتها وأمراضها ونزاعاتها وانقلاباتها. وهو تقليدياً مسرح هش. غياب الحصانة الوطنية فيه يرشحه لاستيراد النار والاكتواء بها. يرشحه لدفع أثمان باهظة في حروب اكبر من لاعبيه المحليين الذين لا يملكون غير الحق في ارتكاب الطلقة الاولى. بعدها تبدأ الاتصالات في غيابهم وعلى قاعدة اعتبارهم مجازفين اندفعوا في لعبة فقدوا حق إدارتها او تحديد وجهتها. يلعب السياسيون اللبنانيون بركائز الاستقرار في بلدهم في منطقة مشتعلة. الضربات الارهابية المتتالية في العراق ترمي الى إيقاظ النزاع المذهبي وتهديد فرص انعقاد قمة عربية شبه طبيعية في بلاد الرافدين. لا غموض حول قرار اهالي جنوب السودان الاستقالة من السودان الذي كنا نعرفه. انه فشل لتجربة تعايش كان يمكن انقاذها بثقافة احترام حقوق الآخر وحقه في الاختلاف. وهناك المفاجأة التونسية بمعانيها ودلالاتها والتي لا يمكن التذرع بخصوصية الوضع التونسي لاستنتاج انها حادث محدود بمسرحه المباشر. وهناك ايران بملفاتها وطموحاتها. والاضطراب اليمني المفتوح على أخطار متعددة العناوين. وانسداد افق السلام والمشهد الفلسطيني المعيب. واتهام مصر «جيش الاسلام الفلسطيني» في غزة بالضلوع في التفجير الذي استهدف المصلّين الأقباط في الاسكندرية. وبرنامج «القاعدة» في المنطقة والذي يتبنى عملية استهداف المسيحيين بعدما راهن في الأعوام الماضية على المواجهات المذهبية. في ظل هذه اللوحة القاتمة يبدو لبنان مندفعاً الى مجازفة بالغة الخطورة. واضح ان الارادة اللبنانية مفتتة. ومصابة بنقص فادح في المناعة. وأن معظم اللاعبين اللبنانيين يزدادون ضعفاً أمام الخارج او التحاقاً به. وأن مختبر التعايش اللبناني ضربته أعطاب قاتلة. وأن اللبنانيين يعيشون عملياً في «اقاليم» خائفة ومتربصة، مشكلتها عدم الترابط الجغرافي او صعوبة رسم حدودها والإعلان الرسمي عن قيامها او فرض حقها في الاستقالة من مصير جيرانها. ليس صحيحاً أن لا خيار امام لبنان غير الهاوية اذا صدر القرار الظني في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وأن صدور القرار سيؤدي حتماً الى فتنة سنية - شيعية فيه. وأن المواجهة في لبنان ستعيد علاقات سورية بمعسكر الاعتدال العربي الى ما قبل قمة الكويت. كل هذا ليس قدراً. لن يخرج احد رابحاً من اشتعال الحريق في شوارع لبنان. لا الحقيقة ستربح. ولا المقاومة. ولا الغرب. ولا سورية. ان غسيل الفتنة سيُنشر يومياً على الفضائيات. وستختلط نار المواجهة المحلية - الاقليمية بمحاولات توظيف القرار الظني بمعزل عن رغبات الساعين الى الحقيقة. لا مبالغة في القول إن الحقيقة ستخرج مثخنة من اشتباك من هذا النوع. المقاومة نفسها ستخرج مثخنة حتى لو احتفظت بسلاحها. ان الاصطدام بنصف المواطنين لا يعطي انتصاراً بغض النظر عن هوية المصطدم. لم يفت الأوان بعد. على القادرين اتخاذ قرار سريع بوقف الانزلاق الى كسر التوازنات في بيروت. لم تهضم المنطقة العربية بعد كسر التوازنات في بغداد. ليس صحيحاً ان الحل مستحيل. يمكن العثور على صيغة لتوزيع الأضرار. صيغة خلاقة لتوزيع السم.