من المفيد للعالم بأسره، بما في ذلك الولايات المتّحدة نفسها، كسر الأحاديّة القطبيّة. والآن، هناك وضع أميركيّ يغري بالتجرّؤ عليها حيث تتوزّع المتاعب ما بين الاقتصاد والسياسة، وما بين العراق وباكستان - أفغانستان، وفي الخلفيّة عِبَر كثيرة خلّفتها سياسات بوش التدخّليّة. لكنّ التطبيق الأكمل لكسر الأحاديّة هو ما نراه في... كوريا الشماليّة. هناك، في هذا السجن الاستبداديّ الكبير والفقير الذي يحرسه رئيس شيوعيّ ورث الرئاسة عن أب شيوعيّ، ظهر التحدّي ناصعاً مطالع الأسبوع الفائت. فبُعيد تجربة تحت الأرض على سلاحها النوويّ، هي الثانية من نوعها، أطلقت كوريا الشماليّة صاروخين آخرين جاء إطلاقهما بعد ساعات على إصدار مجلس الأمن إدانة جماعيّة لتجربتها. والأخيرة قدّرها رسميّون في وزارة الدفاع الروسيّة ب20 كيلوطن، أي أنّ قوّتها تعادل قوّة القنبلتين الأميركيّتين اللتين ألقيتا في 1945 على هيروشيما وناغازاكي وأدّتا إلى تسويتهما بالأرض. حصل هذا بعد مقاطعة كوريا الشماليّة المحادثات السداسيّة لنزع السلاح النوويّ، والتي أثمرت عن موافقتها، في شباط (فبراير) 2007، على التخلّي عن مطامحها النوويّة مقابل الحصول على مساعدات ماليّة ضخمة وعلى تنازلات ديبلوماسيّة. بعد ذاك اتّهمت المفاوضين، أي أميركا وروسيا والصين واليابان وكوريا الجنوبيّة، بأنهم لم يفوا بتعهّداتهم، وكان ما كان. في تبرير التجربة الأخيرة، صدرت عبارة واحدة طويلة عن نظام بيونغ يانغ نقلتها وكالة الأنباء الرسميّة (طبعاً) «كي سي إن آي»، مفادها أن «السياسة العدوانيّة» الأميركيّة حيالها لم تتغيّر، وأن «جيشنا وشعبنا كاملا الاستعداد للمعركة... ضدّ أيّ محاولة أميركيّة طائشة لتوجيه ضربة استباقيّة». لغة تشبه اللغة الإيرانيّة أو اللغة الصدّاميّة من قبل. لكنّ الأسباب الفعليّة، على ما يرجّح الخبراء والمتابعون لشأن كوريا الشماليّة، على صعوبة ذاك الشأن وغموضه، ليست جرّ الولايات المتّحدة إلى تنازلات. أمّا دليل ذلك فإن أوباما أبدى أكثر من استعداد جدّيّ لمحاورة الخصوم، ابتداءً بكوبا. ثمّ إنّه عيّن مبعوثاً خاصّاً هو ستيفن بوزورث الذي رفض الكوريّون الشماليّون التحدّث إليه. الأسباب الحقيقيّة، في الغالب، تترجّح بين طلب الأهميّة واستجابة النرجسيّة القوميّة الجريح، إذ لولا السلاح النوويّ لما كانت كوريا الشماليّة تستدعي أيّ اكتراث، وبين تحويل النظر عن صراع بين أبناء كيم جونغ إيل المريض الذين يطمحون إلى وراثته تيمّناً به حين ورث أباه «شمس الأمّة والعالم» كيم إيل سونغ. طلب العظمة وتحويل الأنظار يضع كوريا الشماليّة لا في مواجهة الولايات المتّحدة وحدها، بل في مواجهة البلدين المعيلين لها، أي الصين وكوريا الجنوبيّة، بحيث يُقدّر أن يتكرّر ما حصل، عام 1991، حين سحبت روسيا دعمها فانهار الاقتصاد الكوريّ الشماليّ. وقد يكون مثيراً للانتباه أن الصين التي طالبت بيونغ يانغ، وبشكل حازم، بالعودة إلى المفاوضات السداسيّة، لا يمنعها من التصعيد إلاّ خوفها من انهيار ذينك النظام والمجتمع وتدفّق ملايين اللاجئين صوب حدودها. إنّها معركة ضدّ العالم كلّه، لن يكون فيها الرأي العامّ الغربيّ إلاّ حليفاً لحكوماته. وهي، أيضاً، حرب على السياسة وعلى الديبلوماسيّة، قاطعة وصريحة. لكنْ سيوجد بيننا، بالطبع، من يطرب لهذا التحدّي الموجّه للأحاديّة القطبيّة ولتلك الكرامة القوميّة الكوريّة التي لا يجدر بنا إلاّ أن نقلّدها.