دخل لبنان مرحلة جديدة هي الأكثر خطورة في أزماته المتلاحقة على مرّ العقود الماضية، بعد أن أوقف الموفدان التركي والقطري مساعيهما وغادرا بيروت إثر رفض قوى المعارضة ورقة للحل أعدّاها استناداً الى مسودة الاتفاق السعودي – السوري، وإصرار قادتها على عدم القبول بعودة الرئيس سعد الحريري الى رئاسة الحكومة، وهو ما رد عليه الأخير مساء أمس مؤكداً التزامه بترشيحه من كتلة «المستقبل» النيابية ومن سائر حلفائه. وإذ جدد الحريري في رسالة وجهها الى اللبنانيين قراره «الدخول في التسوية الى أبعد مدى ممكن وتجاوبت مع جهود خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز والتزمت كامل البنود التي توصلت إليها الجهود القطرية – التركية المشتركة للحفاظ على العيش المشترك»، فتح توقف التحرك التركي – القطري الوضع اللبناني على احتمالات تصعيدية خطرة وسط إشاعات كثيرة شغلت اللبنانيين طوال نهار ومساء أمس عن نية المعارضة بدء تحركها على الأرض ضد بعض المؤسسات واعتراضاً على المحكمة الخاصة بلبنان، فضلاً عن نقل الاتصالات حول الأزمة اللبنانية الى الخارج مجدداً، فزار أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني دمشق أمس واجتمع مع الرئيس السوري بشار الأسد. وذكرت وكالة «سانا» الرسمية السورية أن الحديث دار بين الأسد والشيخ حمد بن خليفة «حول العلاقات الثنائية بين البلدين والتطورات التي تشهدها المنطقة، خصوصاً في لبنان في ظل تعثر المساعي الرامية الى الحل هناك مؤكدين على أهمية الاستقرار والأمن منع تفاقم الأوضاع في لبنان». وكان رئيس الوزراء القطري الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني ووزير الخارجية التركي أعلنا في بيان مشترك وزع إثر مغادرتهما بيروت بعيد الرابعة فجر أمس كل الى بلاده، أنهما قررا التوقف عن مساعيهما «بسبب بعض التحفظات» عن الورقة التي أعداها، والتي علمت «الحياة» أنها تضمنت صيغة تنفيذ متوازن للبنود الواردة فيها، من ناحية التوقيت والتلازم لسلة الإجراءات التي على رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري القيام بها من جهة وعلى الخطوات المطلوبة من قوى المعارضة من جهة ثانية. وإذ أكدت أوساط تابعت المفاوضات أن التحفظات التي أبلغها كل من المعاون السياسي لرئيس البرلمان النائب علي حسن خليل والمعاون السياسي للأمين العام ل «حزب الله» حسين الخليل بعد منتصف ليل أول من أمس الى حمد بن جاسم وأوغلو، ركزت على رفض عودة الحريري الى رئاسة الحكومة، فإن هذا الموقف يجعل من الأيام الثلاثة الفاصلة عن الاستشارات النيابية الملزمة المؤجلة الى يوم الاثنين المقبل لاختيار رئيس الحكومة المكلف، ستشهد ترقباً وضغوطاً كبيرة، من أجل استمالة المعارضة المزيد من النواب لمصلحة مرشحها المرجح أن يكون الرئيس السابق عمر كرامي، مع مراهنة على تحييد الرئيس السابق للحكومة نجيب ميقاتي وحليفه النائب أحمد كرامي، والوزير محمد الصفدي وحليفه النائب قاسم عبدالعزيز الذين كانوا أبلغوا الحريري قبل تأجيل الاستشارات التي كانت مقررة الاثنين الماضي أنهم سيسمونه لرئاسة الحكومة. كما أن أوساط المعارضة تراهن على أن تنجح اتصالاتها واتصالات دمشق في تعديل موقف رئيس «اللقاء النيابي الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط بحيث يصوّت أكثر أعضاء كتلته (11 نائباً) الى جانب مرشح المعارضة. بل أن بعض مصادر المعارضة أخذ يتصرف على أن اتصالات الساعات الماضية سهّلت لها تحقيق هذا الهدف، فيما قالت مصادر مقربة من جنبلاط مساء أمس إنه لم يتخذ قراراً من هذا النوع، لأن الأزمة تتعدى مسألة تعداد الأصوات. وأضافت المصادر أن البلد على كف عفريت، «فالقرار بإفشال التحرك التركي – القطري بصرف النظر عمّن أخطأ ومن استعجل في ذلك لا يعود الموضوع قضية تصويت أم عدم تصويت لأن الخيارات المطروحة أكبر بكثير. والجميع لم يكن يتوقع أن يتم صد التحرك التركي – القطري». وقالت مصادر المعارضة ل «الحياة» إنه «في حال تم ضمان تكليف الرئيس كرامي فإن لا تأجيل للاستشارات والتكليف إذا حصل سيتم ضمان عملية التأليف على رغم أنه لن يكون سهلاً وهذا سيعطي سورية القدرة على مواجهة الضغوط الخارجية بحجة أن التسمية حصلت وفق الأصول البرلمانية الديموقراطية». وأشارت مصادر المعارضة الى أنها وضعت خطة على مراحل، «فإذا لم يحصل تكليف كرامي يبقى الفراغ قائماً وإذا جرى التكليف فإنها لن تشكل منذ البداية حكومة «لون واحد» نظراً الى أن رئيس الجمهورية سيحرج في توقيع مراسيم التأليف بحجة أن تركيبتها لن تكون ميثاقية»، فيما ذكرت أوساط أخرى في المعارضة أن مهمة الحكومة هي إلغاء مفاعيل المحكمة الخاصة بلبنان. وكان أوغلو صرح قبل مغادرته بأنه «إذا أعاد الفرقاء اللبنانيون تقييم موقفهم أو تقدموا باقتراحات جديدة فإننا مستعدون لاستئناف الوساطة... وحان الوقت ليبدأ الأطراف اللبنانيون بالتفكير». وكان حمد بن جاسم وأوغلو اجتمعا مرتين مع كل من النائب علي حسين خليل وحسين الخليل ليل أول من أمس والتقيا النائب جنبلاط والوزير غازي العريضي، والتقيا مساء الرئيس الحريري ثم عادا فالتقياه الثالثة والنصف فجراً قبل مغادرتهما لإبلاغه رفض المعارضة كما عبر موفدي بري ونصرالله، لبنود الورقة التي أعداها، وعدم قبولها عودته الى رئاسة الحكومة. وصباح أمس، وبعد صدور البيان القطري -التركي عقد زعيم «تكتل التغيير والإصلاح» النيابي ميشال عون مؤتمراً صحافياً أعلن خلاله أنه «لو جاءت قوى الأرض كلها لن نقبل بعودة الحريري الى رئاسة الحكومة». ورد الحريري مساء في كلمة أشار فيها الى ما آلت إليه المفاوضات خلال اليومين الماضيين، فقال: «نحن أمام منعطف مصيري جديد في تاريخ لبنان». وأكد ما سبق أن أعلنه عن أن «كرامة أهلي وأبناء وطني هي عندي أغلى من أي موقع وسلطة». وأضاف: «إن نقطة دم واحدة تسقط من أي لبناني هي عندي أغلى من كل مواقع السلطة». وأوضح أنه «إذا قررت قيادات لبنان أن يتحرك الوطن نحو الهاوية فإن الوطن سيقع حتماً في الحفرة، وإذا قررت قيادات لبنان أن تنأى بالوطن عن الهاوية فإن لبنان سيبقى على بر الأمان». وقال: «لن نلجأ الى سياسة الويل والثبور وعظائم الأمور لأننا اخترنا الاحتكام الى الدستور ولا ضيم علينا في أن نتقبل النتائج السياسية لأي مسار ديموقراطي حتى لو كانت النتائج تحصل بفعل موجات متتالية من الضغوط». وعرض الحريري في رسالته مراحل الجهود السعودية والسعودية – السورية مروراً بجهود الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وصولاً الى التحرك التركي – القطري، وقال: «مرة جديدة يتوقف قطار الحل بفعل فاعل ويعودون مع ساعات الفجر لإبلاغ الموفدين القطري والتركي بمطلب واحد لا ثاني له: غير مقبولة عودة سعد الحريري الى رئاسة الحكومة. ركنوا بنود الحل جانباً وطالبوا فقط بإقصاء سعد الحريري عن التكليف برئاسة الحكومة». وذكّر الحريري بتجربة العام 1998 «والحملة السوداء التي استهدفت الرئيس الشهيد رفيق الحريري وتلك الأبواق التي اندلعت لتنادي باقتلاع رفيق الحريري من السلطة»، معتبراً أن «المشهد يتكرر هذه الأيام». وإذ تحدث الحريري عن محاولة اغتياله سياسياً، قال: «سنذهب للاستشارات النيابية وسندلي برأينا وفق الأصول ملتزماً بترشيحي لرئاسة الحكومة... المهم أن يكون الاحتكام الى الدستور والمؤسسات الدستورية قاعدة يعمل بموجبها الجميع». من جهة ثانية (ا ف ب)، أكدت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في واشنطن أمس أن «على اللبنانيين أن يحلّوا أزمتهم السياسية بأنفسهم، على رغم استعداد الولاياتالمتحدة لمساعدتهم». وأضافت كلينتون: «في الأيام المقبلة ستشهدون تحركاً كثيفاً في لبنان»، وزادت: «نحن مستعدون، كما العديد من الفرقاء في المنطقة وخارجها، لتقديم مساعدتنا». وكررت الوزيرة الأميركية دعم بلادها للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان.