استغلت طهران فترة الاحتلال الأميركي للعراق، لتعمل على تقوية وتعزيز رصيدها الطائفي بتحيزاته المذهبية، واضعة نصب أعينها «الانتصار» لولاية الفقيه وتمذهبه الخالص، ولنظام كهنوتي وتوتاليتاري، يحلم باستعادة أمجاد الامبراطورية الفارسية، في وقت كانت «الداعشية» ومن قبلها «النصرة القاعدية» تعمق من ترصيدها الطائفي في العراق. وقد كانت حروب «الصحوات» من أكثر الحروب دموية، وهي تتغذى من سرديات التمذهب الطوائفي، حتى نشأت على أرض الرافدين سرديات أكثر دموية ووحشية، فاضت على كامل مناطق الإقليم والعالم. وها هي مخططات فتن الترصيد الطائفي تتواصل، لتوسيع جبهاتها وضرباتها وهجماتها وعمليات ذئابها المنفردة، وجماعات الانتحار والانغماس والتفجير الذاتي والجماعي. حتى بتنا نشهد «حروب الدول» في داخلها ومن لدن رعاتها الإقليميين، انتقالاً نحو دول أخرى، من قبيل دعم طهران لحوثيي اليمن والمعارضة الطائفية في البحرين ودعم النظام السوري وتنظيمات الحشد العراقية. علاوة على كل هذا، وليس على هامشه، بل وفي الجوهر، صارت الصراعات التي يجري خوضها في كل مكان في العالم، تقوم على قواعد راسخة من ثقافة الكراهية الدينية وأيديولوجيات العنف والتكفير والتخوين السياسوية، حتى دفع الوطنيون والتحرريون في بلادنا أثماناً باهظة جراء عدم انحيازهم لأصحاب الفتن الطائفية والترصيد الطوائفي، وإن لم يقفوا على الحياد، بل هم يؤكدون يومياً وعبر تمسكهم بانحيازاتهم وتحيزاتهم لوطنياتهم وأفكارهم المستقلة التنويرية والحداثية، يؤكدون صوابية نظراتهم ورؤاهم العلمانية، المناهضة لكل ترصيد طائفي أو مذهبي. وبفعل ارتباك المجتمع الدولي وعجزه عن إيقاف المجازر والجرائم ضد الإنسانية، يكون هذا المجتمع قد أسقط نفسه من «علياء» القيم والأخلاقيات والقوانين ومدونات حقوق الإنسان، والتحق بمراكز وأطراف أنظمة وميليشيات التوحش، من قبيل دعاة ورعاة الفتنة على جانبي التمذهب الإسلاموي، العاملين عمداً، وبداعشية ممتازة، وبتقية أكثر امتيازاً، على الإطاحة بقيم وأخلاقيات وشرائع التدين الراشد، حيث لا قيمة للإنسان والأوطان والمجتمعات؛ إلا من حيث هي قيمة استعمالية ووظائفية، يجري ترصيدها لخدمة مشاريع أكبر، تعشش في مخيلات البعض الضارب بجرائم فقهه التعصبي المتوحش. وإن كانت سمات العودة إلى الماضي غالباً ما تحمل خطابات عنيفة ومسلكيات أشد عنفاً وأكثر وحشية؛ على ما هي الحال في سورية، وفي أكثر من مكان لم يعهد موتاً كالموت الذي أراده ويريده النظام الأسدي لشعبه، ونظام ولاية الفقيه بميليشياته المذهبية والمرتزقة، على اختلاف انتماءاتها وهوياتها، ليجري توظيفها في خدمة أهداف القتل الإجرامي؛ باسم «الإسلام» و «النظام الإسلامي» و «الأمة الإسلامية»، على ما ذهب نائب القائد العام للحرس الثوري الإيراني العميد حسين سلاميان، الذي اعتبر في «نشوة الانتصار» على حلب، وفقاً لوكالة إرنا للأنباء الرسمية الإيرانية، أنها «بداية الفتوحات الإسلامية»، مضيفاً أن استعادة الأحياء الشرقية لحلب هي «فتح الفتوحات، وأنها الخطوة الأولى والفتح المبين، وأنهم سيحررون الموصل والبحرين واليمن قريباً»! في تلك المناخات السوداء، أي سيادة يبقى لسورية الدولة، وأي وطنية يمكن الرهان عليها لدى نظام فرط بكامل رصيده الوطني على مذبح تسمين وترصيد طوائفيته، فيما السيادة الوطنية باتت تتردى اليوم في مواضع شكوك كبرى، في ظل احتلالات متعددة، جميعها يمارس قتل السوريين على الهوية، فيما النظام نفسه بات أسير معاداة السوريين أيضاً على الهوية، ويواصل هندسة اجتماعهم وفق ما يرتأي الداعمون الطائفيون، لا وفق أي تصور أو رؤية وطنية، فهذا أو تلك باتا من الماضي، والمدن السورية بمجملها «شاهدة ملحمية» على محنة ما جرى ويجري لمواطنيها، فيما الاحتلالات تذيقهم من أصناف الويلات والمآسي الكثير. * كاتب فلسطيني.