حين حضر المدرب العراقي مالك فيوري إلى لبنان للإشراف على فريق الراسينغ العريق، كان متيقناً أنه يخوض مغامرة في الدوري اللبناني لكرة القدم الذي يعاني من تبعات الأزمة السياسية وإنعكاساتها على مختلف الأصعدة. لكن فيوري (35 سنة) المتحمّس لإثبات ذاته وإظهار مقدراته التدريبية وفق طريقته الخاصة، جعل من الفريق الذي كان يوماً "سندباد الكرة اللبنانية" وأحد أركانها الكبار وأضحى يتلمّس سبل البقاء في الأضواء معتمداً "جانب السلامة"، بعبعاً لحملة الألقاب ومسقطاً لهم وصياداً للأبطال يوقعهم في شركه على رغم البون الشاسع في الإمكانات البشرية والمادية، وبالتالي أضحى فيوري ظاهرة الموسم ووضعه وفريقه أمام تحديات كثيرة ستتضاعف مع إنطلاق مراحل الإياب بدءاً من 29 كانون الثاني (يناير) الجاري. يحتل الراسينغ حالياً المركز الثالث في الترتيب العام (22 نقطة) بفارق الأهداف عن الصفاء، وخلف العهد حامل اللقب (26) والأنصار (23)، علماً أنه أنهى الموسم الماضي وفي جعبته 29 من 22 مباراة. وحقق الراسينغ 6 انتصارات و4 تعادلات في مقابل خسارة واحدة أمام شباب الساحل (1- 2). وإنطلقت رغبة فيوري في البروز وإثبات الوجود استناداً إلى ما اكتسبه في الملاعب الفرنسية لاعباً ومدرباً، وأراد توظيف خبرته وعلومه الأكاديمية في هذا المجال ليؤكد أن المدرب العربي لا يختلف عن الأجنبي في شيء، ومن يتميز من الاثنين هو الذي يحسن توظيف الظروف المتاحة له وإستثمارها وإن كانت صعبة وعسيرة كما هي الحال التي يعيشها في الراسينغ. لكنه وبفضل مؤازرة إدارة النادي "التي يتمنى أي مدرّب أن يتعامل معها"، وتعاضد اللاعبين معه تمكّن من قلب المعادلة وفرض الفريق لاعباً رئيساً ومنافساً على المقدمة. ولا نكشف سراً حين نشير إلى أن فيوري إنطلق في مهمته مستنداً على تشكيلة تفتقر في شكل جذري إلى الاحتياطيين، ما جعله يعوّل غالباً على 13 أو 14 لاعباً، وأحياناً لا يجري تبديلات. ويوضح فيوري ل"دار الحياة" أن سر هذه التوليفة الناجحة "هو الانسجام الذي أوجدته في صفوف اللاعبين الذين تحمسوا وبذلوا قصاراهم بعدما أدركوا أنني منحتهم عصارة خبرتي وما اكتسبته من خلال توظيف مهاراتهم وإمكاناتهم الفنية وفق قابليتهم، فكانت الحصيلة نتائج عير منتظرة بالنسبة للجميع تخطيت بها الإمكانات المحدودة". ويلفت فيوري إلى أن "عطلة الشتاء" جعلت الفريق يتنفس الصعداء وأسهمت في معالجات بدنية وتكتيكية، لكن مشكلة النقص العددي لا تزال قائمة، ولم يتعاقد الراسينغ مع أجانب جدد على غرار فرق أخرى. وبالتالي يتعيّن عليه التصدّي لاستحقاقات الإياب بسلاح الانسجام بين أفراده وفق ما يؤديه كل منه في ضوء المهام المناطة به، في مقابل وفرة لاعبين في صفوف فرق أخرى. ويشدد فيوري في هذا الصدد على إعتماد أساليب تدريب حديثة لا تثقل المهام على اللاعب، بل تحضه على تقديم أفضل ما لديه في المساحة المكلّف بتغطيتها. وفي إطار توظيف المهارات وبلورة قابلية العناصر ميدانياً، أحدث فيوري إنقلاباً في مراكز اللاعبين وبدّل في مواقعهم معولاً على نجاحهم في ما يطلبه منهم، بعدما اكتشف إمكان تنفيذهم هذه المهام منذ ان عاين أداءهم في الحصص التدريبية الأولى، علماً أنه تسلّم الفريق قبل أسبوعين من إنطلاق الموسم. ويبدي فيوري ارتياحه إلى استجابة اللاعبين لرغباته الميدانية وأيصال أفكاره، فمثلاً بات حسن خاتون يتفادى المراوغة والاحتفاظ بالكرة طويلاً، وتحوّل علي حمية وعلي بلوط إلى هدافين، وعماد الميري من ظهير إلى لاعب ارتكاز وهداف أيضاً، ووسيم عبد الهادي إلى مهاجم صريح... باختصار استوعب كل لاعب المطلوب منه داخل الميدان، علماً أن فيوري وعلى حدّ تعبيره لم يعطِ بعد كل ما يريده ويتمناه، بل يصلح ما يمكن إصلاحه من أخطاء درج اللاعبون عليها وأصبحت في سلوكيات أدائهم. ولا يجافي فيوري الحقيقة حين يعلن أنه إذا استقطب الراسينغ لاعبين محليين جدداً، وهم متوافرون، قادرين على تنفيذ تكتيكه وتقديم نموذج لما ينشده مقرناً الأداء بالنتيجة "يمكن أن استمر مع الراسينغ في الموسم المقبل"، إذ أبدى صراحة استعداده لتدريب منتخب لبنان، واعداً أن يُظهره بنقلة نوعية خاصة. ومالك نجل حسن فيوري لاعب منتخب العراق وفريق القوة الجوية في خمسينات القرن الماضي وصاحب أكاديمية تحمل إسمه تستوعب كل موسم 40 لاعباً، وتتهافت الأندية العراقية على استقطاب أفضلهم سنوياً (18 منهم يشاركون حالياً في الدوري الممتاز)، يعتبر أنه ليس شرطاً عندما يختار المدرب خطوط اللعب وعناصرها للمنتخب أن تكون هذه العناصر تؤدي الدور ذاته في فرقها ضمن الدوري، بل أن "أختار العناصر القادرة على الاضطلاع بمهام أخرى حين تدعو الحاجة، من خلال التوليفة التي أختارها عبر توظيف مهارات وقدرات شخصية في الأمكنة المناسبة".