الضباب الكثيف الذي كان يلف فضاء مطار محمد الخامس في مدينة الدارالبيضاء المغربية، لم يحجب رؤية رفاق الرحلة الى تونس، وغالبيتهم من المنفيين لأسباب مختلفة، بعضها سياسي وبعضها اقتصادي، إذ إن كثيرين منهم عائدون لبدء حياة جديدة في بلدهم بعد سنوات من الحرمان. على كل الألسنة حديث عن «الطرابلسية»، عائلة زوجة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وحسابات لم تنته بعد. الإحساس بالمرارة والأمل يطغى على الحديث المستفيض الذي تختلط فيه العربية بالفرنسية بالكلمات الدارجة العصية أحياناً على فهم غير المغاربيين. وقت الانتظار يطول من دون السماح للطائرة بالإقلاع بعد، وفي أثنائه تتشابك حكايات المنفيين العائدين. بين المجلات الموزعة التي تملأ فراغ ساعات الرحلة، واحدة لبنانية خصصت صفحات للدعاية للنظام قبل سقوطه بأيام. آخر مرة عدت فيها من تونس لعيادة أحد أفراد الأسرة كنت عزمت على ألّا أعود إلا في حالات الضرورة القصوى، وذلك لأسباب الكترونية، فعلى امتداد إقامتي على مدى ثلاثة ايام فشلت في استقبال او إرسال اي بريد إلكتروني، وبذلك انقطعت صلتي بعالمي الواقعي والافتراضي، وقتها لم أدرك وجود تلك الحواجز التي تمنع الإيميل من ان يسافر في ثوانٍ كما تعوّدنا على ذلك جميعاً، الا حين حطت بي الطائرة في باريس وبدأت الرسائل تغرق بريدي متلقياً أجوبة عن أمور فات زمانها. عادت الى ذهني حكايات عمار 404، ذلك المهندس الشبح الذي اطلق التونسيون اسمه رمزاً للخطأ الذي يقابلك في كل مرة تبحث فيها عن موقع محجوب او عنوان غلط على الشبكة العنكبوتية. العودة اليوم الى تونس لها مبررات مختلفة، واذا اسثنينا الرغبة في معاينة لحظات التحول، فإن البحث عمّا تغير وما جد في البلاد التي طوت صفحة نادرة في العالم العربي، هو رغبة اي صحافي لا يزال يبحث عن المتاعب في متاعب الآخرين او أفراحهم. مطار قرطاجة كان من الأماكن النادرة التي سلمت من لعبة تغيير الأسماء، فقد ظل كما هو، منتمياً الى قرطاجة او قرطاجنة، فهو جزء من زهو تاريخ تونس بنفسها. وحده زين العابدين بن علي، لم يعد يستقبلك بصورته تلك التي أزيلت، والتي كانت مرفقة بشعارات مصاحبة ترحب بضيوف مؤتمر الأممالمتحدة للتطور الرقمي، والذي ظل عقده على ارض تونس من مفاخر النظام، الذي أسقطته من بعد الثورة الرقمية إياها. عند كشك الشرطة، بدا رجل الأمن الشاب مرتبكاً وهو يتحرى عن هويتي وعملي الصحافي ومكان سكني، يريد أن يكون ودوداً، لكن ثلاثة ايام من انقضاء الحكم ليست كافية لتغيير ثقافة ثلاثة عقود من استعداء الصحافة والشك فيها. على كلٍّ مرت الإجراءات بسلام وطبعت سمة الدخول على صفحة من جوازي المزدحم بحبر شرطة الدخول في المنافذ المختلفة. ها أنا في تونسالجديدة ولولا عصبية سائق التاكسي وحكاياته عن العنف والتسيب وهموم حيه، لقلت ان كل شيء انتهى، وان تونس استعادت هدوءها. لكن الانطباعات الاولى كانت خادعة، فلا يزال ثمة جمر يتقد والجميع يدعو الى ألا تجهض الثورة على امتداد الشارع الفاصل بين المطار وقلب المدينة. ترى الوجوه المتحفزة نفسها تطل من خلف الأسوار وعند بوابات المباني، بيوت اهل الحي يحرسها اهلها، والعيون حمر وشاهدة على السهر الطويل لتأمين الأهل والجيران من طمع اللصوص الذين تسربوا في لحظات الفوضى والتسيب. لكن الخوف يبقى من الآخرين، رجال الجنرال علي السرياتي الذين ينشرون الرعب أملاً بنشر الفوضى التي تجهض الثورة، وأما الخوف الآخر، فهو هاجس ما يمكن ان يأتي من بلاد مجاورة. يبقى الهاجس، وكنت قرأت كل ما كتب عن نقص الغذاء وقلة الطعام، ان تجد فندقاً وطعاماً ساخناً يئد الجوع الذي ينشر مخالبه. فندق خير الدين باشا، احد تلك الفنادق المتوسطة التي تعتبر جنة للسياح المحدودي الدخل. لكن الصحافيين، وخصوصاً العاملين في المحطات التلفزيونية يريدون تحويله الى فندق الرشيد، فيما يأمل احد المنتجين بأن يؤجر السطح للقنوات التي تريد أن تعمل طوال فترات حظر التجول، لكن المشكلة ان العرض كثير وتونس مليئة بالفنادق. هاجس الخوف من الصحافة لم يتلاشَ بعد، موظفة الاستقبال كانت تختفي في كل لحظة لتكلم (المعنيين) هناك عن القادمين الجدد ومن يكونون وماذا يفعلون. إبلاغ الجهات الأمنية جزء من الروتين اليومي في كل الفنادق، خصوصاً في بلاد كانت تحوي من المخبرين ما لا يعلم عدده الا الله. «لقد سقط بن علي ولم يسقط النظام لكنه غير طريقة تعامله»، يقول احد الصحافيين، الا ان ماهر عبدالرحمن، وهو احد الصحافيين التونسيين الذي عمل طويلاً في المجال التلفزيوني يلخص الوضع بالقول ان التغيير في العقليات يتطلب وقتاً ليتعوّد الناس على ممارسة الحرية والعمل وفق ثقافتها، الوقت كان قصيراً ليدرك الناس حجم التحول الذي عرفته حياتهم، ولعل ابرز مثال على ذلك ما يجرى اليوم في وكالة الإعلام الخارجي، فقد تخصصت تلك الوكالة في ضبط ما تكتبه الصحافة عن النظام وتنسيق العمل الدعائي له، لكنها وجدت نفسها فجأة في وضع لم تهيأ له، لقد أخذ العاملون على حين غرة بجحافل من المراسلين من كل حدب وصوب، لذا لم يجدوا الوقت الكافي لإزاحة المئات من الكتيبات الصغيرة التي تحوي خطب الرئيس المخلوع وزوجته ليلى الطرابلسي، والتي كانت جزءاً من الزاد الذي يزود به القادمون للوكالة مع التراخيص الممنوحة لعملهم، او اعتذارات الرفض المحفوفة بالابتسامات. كتب وجدت فيها صحافية صينية شابة تتكلم العربية بلكنة اهل شنغهاي دليلاً على ان التغيير لم يحدث بعد، ربما أملاً بأن لا تحدث العدوى. احد العاملين في الوكالة بدأ يتصفح احدى الجرائد القديمة على انها من صحف اليوم، وحين باغتته صورة بن علي في صدر الصفحة الأولى قال لنا انه شعر بالخوف لحد الفزع من ان يكون الرجل عاد للسلطة من دون ان يعلم. حكايات وحكايات تجسد حال الخوف من تسارع الأحداث وتتابعها من دون ان تخبر أحداً بما يخبئه له اليوم وربما الساعة التي تلي ذلك. ذلك الخوف الساكن في حياة المواطن الذي يريد أن يضحي وان يحصد بسرعة، لكن لا قبل له بما سيترتب عن ذلك من المنغصات، لقد انتصرنا بأن ازحنا بن علي والآن نريد ان نعيش حياتنا العادية، تردد مجموعة من الأساتذة الجامعيين انتحوا في ركن من مقهى صغير فتح ابوابه للتو ويلوذون بفناجين القهوة لقتل وقت فراغ بدا لهم طويلاً، فالمدارس ما زالت مغلقة والانتظار يطول. تقترب من شارع الحبيب بورقيبة، وسط المدينة فيصدمك العدد الكبير من الحواجز العسكرية التي تفتش العربات، وتزداد حدة الوجود العسكري كلما اقتربت من المنافذ الحساسة للدوائر الحكومية او المقار الأمنية، ذلك ان الجيش اليوم هو الحاضر الغائب، فهو ليس في الواجهة السياسية، لكنه هو من يمسك بخيوط اللعبة. في الطريق تقابلك دبابات في كل مكان تصوب فوهاتها الطويلة الى الشارع، بينما يمسك الجنود بأسلحتهم محتضنيها الى صدورهم من دون ان يتحدثوا مع احد. مجرد إيماءة تشير الى ان المرور مسموح او ممنوع، غير أن ثمة رجال امن آخرين لا بد انهم رجال شرطة ببذلاتهم المدنية يفتشون العربات تفتيشاً دقيقاً، خصوصاً في الممرات المؤدية للمصالح الحكومية. ومنذ أن جرى توقيف عدد من المسلحين الذين يستقلون سيارات تاكسي والريبة من تلك العربات تلاحقها، لذا يبادر أصحابها الى اطلاق سلسلة من الشتائم تلاحق الجميع، وتبدأ من العائلة الطرابلسية. تشرق شمس جديدة على تونس. الحياة تستعيد بعضاً من طبيعتها، نسلك الطريق المؤدي الى ضاحية المرسي احدى المناطق السياحية التي تزدحم عادة بالحركة. زوجان يسيران بمحاذاة السور المطل على البحر ثم ما يلبثان ان يتوقفا امام احدى دبابات الجيش لالتقاط صورة تذكارية، الجنود لا يترددون في القيام بدور المصور. لقد اصبحت الدبابات مصدر جذب بعدما اغلقت المتنزهات. نمرّ بمحاذاة قصر السعادة بحدائقه الجميلة. هنا كان بورقيبة يقضي بعضاً من اوقاته. تحول القصر في ما بعد الى قاعات افراح للبلدية وتحولت الحدائق متنزهات شعبية بأمر من زين العابدين بن علي. يقول السائق المرافق: لولا الثورة لألحق بممتلكات الطرابلسية. من يدري فقد يحولونه فندقاً. نواصل الطريق. لا وجود للسياح الذين كانوا يملأون المكان. المقاهي مليئة بالرواد والباعة ينادون على بضائع لا يظهر مشتروها. تظهر فيلا بأبواب مكسورة يقول السائق، ان أصحابها جزء من عائلة ليلى بن علي، وقتها تدرك مقدار الحقد الذي انصب فجأة على أولئك الناس. لقد دفعوا ثمن قربهم من الرئيس غالياً. تقرأ صحف اليوم فتجد أن باب حكايات آل الطرابلسي هو المنبع الذي يجذب به الصحافيون قراءهم. خبر آخر مهم، فقد تم تقليص ساعات حظر التجول، إذاً الوضع الامني يستقر والحكومة الجديدة بدأت عملها. التظاهرات لم تعد تجذب الناس. تدس الجرائد في حقيبتك للاستعانة بها على قضاء ليلة اولى تحت حظر التجول، الساعات تمرّ رتيبة. ما اصعب ان يعيش المرء وهو مقيد الحركة وفي محيط مقيد. الليل طويل، تطل من النافذة فلا ترى سوى سيارات الجيش وهي تقطع بهديرها الصاخب صمت المكان فغد يوم آخر فما الذي يخبئه الليل لتونس؟