رغم انتشار الفقر في الريف التونسي إلا أن نسبة متزايدة من الأسر الفقيرة تركزت في المناطق الحضرية، ونعني بالفقر أن نفقات العائلة السنوية إما أنها تحت خط الفقر أو تقترب من الفقر، ولا غَرْو فقد تجاوزت نسبة البطالة في تونس ال 14 في المئة، وهو معدل مرتفع مقارنة بالحد المعقول الذي لا ينبغي أن يزيد عن 4 في المئة، فهل انحصرت البطالة في أوساط الشباب والنساء وأصحاب القسط المتدني من التعليم؟ أبداً، فحتى بين الطبقات المتعلّمة، وفئات العمّال المهرة في قطاع السياحة والبناء والنسيج كانت معدلات العاطلين عالية، وخاصة مع النمو البطيء للقطاع الخاص، فبالرغم مما أظهرته تونس من التزام حيال الإنفاق الاجتماعي، وتوسّع في برامج التأمين الاجتماعي والمساعدات الاجتماعية وخلق فرص العمل وخاصة بين النساء، بالرغم من الدعم الحكومي للمستهلك، ولخدمات الصحة والتعليم بمجانية متاحة للجميع، بالرغم من هذا، إلا أنها ظلت مجرد محاولات لم تقلص الفجوات بين الاحتجاجات والمحقَق على الأرض، فقراءة الدولة التونسية لمشهدها ككل لم تكن سريعة بما يكفي، ولا دقيقة وإلاّ لما سمحت برفع أسعار المواد الأولية في إجراء غير محنّك على الإطلاق، ناهيك عن القبضة الأمنية الفولاذية التي صادرت حقوق التعبير والتنفيس، وعن تغلغل نفوذ المحسوبين و «المسنودين» المسّتفز الذي قضى على صبر الشعب واحتماله. لن تخرج الدولة العربية من المأزق الحقيقي الذي وضعت نفسها فيه إلاّ بإدراكها واقتناعها أن السياسة ليست من إنتاج الدولة، وإنما هي بالأساس من إنتاج المجتمع، ولا تتحقق إلاّ بتفاعل الدولة مع المجتمع ومن خلال استيعاب صراعاته واحتياجاته وتوازناته الخاصة، وحتى لو لم تكن الدولة تحرص على تطبيق ما سرد للتو، وترى أنها لا تزال قائمة، فلتعِ أنه لم يعد ممكناً لها الاستمرار على حالها القديم ولا تكون كمن يرقد على صفيح ساخن، وهاهي انتفاضة الياسمين قصمت ظهر النظام التونسي من حيث لم يحتسب، فما هي مهمة الدولة؟ أن تقوم بتنظيم السلطة وتوزيعها لترعى تنفيذ السياسات المنبثقة عن إرادة الشعب ورغبته، فالجماعة هي التي تقرر ولكن بالتنظيم عبر الدولة كوسيلة إجرائية، ولذلك خلقت الاستفتاءات (النزيهة)، ولذلك عرفت الأنظمة التصويت (الصحيح)، لفرز الرأي العام واختيار البرامج السياسية والمشاريع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بحسب توجهات الشعب، (وعليه تأتي أهمية حرية الإعلام ودوره)، فالدولة هي الوعاء الذي يتسع لاحتضان الجميع، وهي السبيل لحسم النزاع والتنافس بين التيارات المجتمعية المختلفة، عندها لن تجد من يولول من التهميش والظلم والاقصاء، بل وستنكمش خلايا الفساد والانتفاع (لتكريس سياسة الثواب والعقاب)، ويتشكّل الولاء للوطن بلا أقنعة. ليست الدولة هي الإطار المختص بالاختيار بين المطالب وتفضيل بعضها على البعض الآخر، إلاّ بما هي تنفيذ لاختيارات عامة ومصلحة أجمع عليها مسبقاً، وقد اعترف ابن علي بمطالب شعبه أو جزء منها ولكن ليس في اللحظة المناسبة لها، وهذه هي قوة الحاكم التي تفقد معناها إذا لم تستثمر في وقتها الذي تحدده خبرة وحنكة القيادة، ومتى تكون المبادرة الرسمية قد آن وقتها ولا تحتمل التأجيل، فانظر حين تأجلت ماذا جلبت معها؟ فهذه أحلام بشر وهذه حياتهم وليس منطقياً التوقع أنهم سيتنازلون عنها مهما حاول الآخرون مصادرتها، وسيأتي يوم وتنفجر بسبب عربة خضار وتكون الشعلة لبداية تغيير أكبر، لا يقتصر على مجموعة تنازلات كانت محصورة وكان من الممكن للنظام التضحية بها حين كان الوقت في صالحه. السياسة اليوم تجاوزت شكلها التقليدي المعروف، فبعد أن كانت حكراً على طبقة من أهل الاختصاص، أصبحت حقاً مشاعاً لأفراد الوطن لاحساسهم أنهم أبناؤه ومن حقهم أن ينعموا بخيراته طبقاً لما يقرروه، الأمر الذي لا يخوّلنا المراهنة على حلول قديمة «تسكيتية» لمواجهة مشاكل حديثة وحياتية. [email protected]