في الشهور الأخيرة أجريت ثلاث جولات انتخابية في الدول الممتدة على خط واحد من قلب البلقان إلى ساحل البحر الأدرياتيكي (مقدونيا وكوسوفو وألبانيا) المتداخلة في التركيب الإثني والمشتركة في تخبطها السياسي نتيجة للأزمات التي ترتبط بفساد واسع النطاق للأحزاب التي جاءت باسم القومية والديموقراطية. بدأت هذه الجولات في «جمهورية مقدونيا» خلال كانون الأول (ديسمبر) 2016، واحتاجت الأزمة السياسية إلى خمسة شهور حتى يخضع رئيس الجمهورية للضغوط الأوروبية والأميركية ويكلف المعارض اليساري زوران زائيف تأليف الحكومة بعد أن جمع غالبية برلمانية كافية (62 صوتاً من أصل 120) ليدفع بذلك رئيس الحزب القومي نيكولا غرويفسكي إلى المعارضة بعد عشر سنوات من الحكم اتسمت بفضائح الفساد. أما الجولة الثانية فقد أجريت في كوسوفو يوم الأحد 11 الجاري، في حين أن الجولة الثالثة ستجرى في ألبانيا يوم 18 الجاري وسط صراع عنيف بين اليمين واليسار، مع أن الفوارق لم تعد واضحة بين «اليمين» و «اليسار» في «كولومبيا الأوروبية» كما أصبحت تعرف ألبانيا في السنوات الأخيرة. الفساد المستشري منذ الاستقلال تكتسب انتخابات كوسوفو أهمية كبيرة لثلاثة أسباب على الأقل. الأول هو أن هذه الجمهورية التي لم تستقر بعد منذ استقلالها في 2008 دخلت في أزمة سياسية كبيرة منذ انتخابات 2014 التي أفضت أخيراً إلى الدعوة إلى انتخابات مبكرة. أما السبب الثاني فيكمن في أنها جرت عشية بدء عمل المحكمة الدولية للتحقيق في جرائم الحرب في كوسوفو 1998-2000 التي يعتقد أنها ستطاول بعض كبار المسؤولين الذين جاؤوا من «جيش تحرير كوسوفو». أما السبب الثالث فيكمن في أنها جاءت بعد نجاح التدخل الأوروبي- الأميركي في جمهورية مقدونيا المجاورة في إرغام رئيس الجمهورية على تكليف المعارض اليساري زوران زائيف تأليف الحكومة، وهو ما يمكن أن يتكرر الآن في كوسوفو. وتجدر الإشارة إلى أن الأزمة السياسية في كوسوفو كانت مرتبطة بالصراع المزمن بين الحزبين الرئيسيين: حزب الرابطة الديموقراطية الذي أسّسه عام 1989 زعيم حركة الاستقلال إبراهيم روغوفا، والحزب الديموقراطي بقيادة هاشم ثاتشي الذي تأسس عام 1999 وضمّ قادة «جيش تحرير كوسوفو» بعد نجاح حلف الناتو في إرغام القوات الصربية على مغادرة كوسوفو بعد حرب 1999. فقد كانت الرابطة الديموقراطية هي القوة السياسية الرئيسية خلال 1989-2007 إلى أن فاز الحزب الديموقراطي للمرة الأولى في انتخابات 2007، وتمكن بذلك رئيسه ثاتشي من الاستمرار في الحكم حوالى عشر سنوات (2007-2016) اتسمت بالفساد. ففي عام 2016 انفجرت فضيحة «برونتو» وهي تتمثل في تنصت أجهزة أوروبية على اتصالات رئيس الكتلة البرلمانية للحزب الديموقراطي الحاكم آدم غروبوفتسي، ليتبيّن فيها أن هناك دولتين: دولة فوق الأرض لها دستورها وبرلمانها ومؤسساتها، ودولة تحت الأرض تسيطر على مفاصل الدولة وتدير مؤسساتها من خلال الاتصالات الهاتفية. وعلى رغم ذلك فقد انتهى الأمر فقط إلى استقالة غرابوفتسي وإلى «عزم» القضاء على التحقيق في ما ورد في تلك الاتصالات. أما أكبر مؤشر للفساد المتراكم منذ عشر سنوات فيبدو في المعلومة التي نشرتها الصحيفة الكوسوفية الأولى «كوها ديتوره» عشية الانتخابات وتقول إن ربع نواب البرلمان الأخير (2014-2017) أو 30 من أصل 120 يلاحقون أو يتم التحقيق معهم لارتكابهم جرائم فساد واغتصاب وحتى جرائم حرب (عدد 11/5/2017). ومن هنا ليس مصادفة أن يدعو السفير الأميركي في بريشتينا غريغ دلواي المواطنين الكوسوفيين إلى عدم انتخاب الفاسدين المعروفين وإلى عدم السماح بسرقة الأصوات كما حدث في انتخابات 2010، موضحاً أن السفارة الأميركية وحدها أعدت 40 فريقاً لمراقبة الانتخابات، بالإضافة إلى بعثة الاتحاد الأوروبي و25 ألف مراقب محلي من الهيئة العامة للانتخابات. ومن ناحية أخرى لم تكن المصادفة وراء قيام الصحافة الكوسوفية بنشر تقرير «المعهد الدولي لدراسات الشرق الأدنى والبلقان» (مقره في لوبليانا بسلوفينيا) عشية الانتخابات بمانشيت عريض يقول: «القوى الدولية قررت استبعاد ثاتشي وفسح المجال لكورتي» (جريدة «زيري» 28/5/2017). أما هاشم ثاتشي فهو رئيس الحزب الديموقراطي الذي حكم في الواقع طيلة عشر سنوات 2007-2016 وأصبح أخيراً رئيساً للجمهورية. غالبية ترغب في التحرر من «عصابة برونتو» ومع كل هذه المؤشرات لا تبدو النتائج مستغربة مع أنها جاءت صادمة. فمع خشية قادة «جيش تحرير كوسوفو» من كابوس المحكمة الدولية للتحقيق في جرائم الحرب في كوسوفو خلال 1998-2000 بادر هؤلاء الذين أصبحوا رؤساء الأحزاب الثلاثة (قدري فيصلي رئيس الحزب الديموقراطي بعد أن تخلى عن رئاسته ثاتشي بسبب انتخابه رئيساً للجمهورية في 2016، وراموش خير الدين رئيس التحالف لأجل مستقبل كوسوفو، وفاتمير ليماي رئيس حزب البادرة) إلى تأليف تحالف انتخابي كبير يمكّنهم من الفوز وتأليف الحكومة لعل ذلك يعطيهم حصانة من المحكمة الدولية. وفي المقابل بادرت الرابطة الديموقراطية برئاسة عيسى مصطفى إلى تشكيل تحالف انتخابي مع حزب أغنى شخص في كوسوفو بهجت باتسولى باسم التحالف الجديد لأجل كوسوفو، وحزب «البديل» الذي أسسته أخيراً رئيسة بلدية جاكوفا ميموزا كوساري- ليلا بعد انشقاقها عن حزب باتسولي. أما حزب «تقرير المصير» فأسّسه السياسي الشاب ألبين كورتي (ولد عام 1975) عام 2005 واستمر في رئاسته حتى عام 2015 بعد أن انتخب للبرلمان، وأصبح مرشح الحزب لمنصب رئيس الوزراء في حال فوز الحزب في الانتخابات. ومقارنة بالأحزاب الأخرى يطغى عنصر الشباب على هذا الحزب ويمثلون خلطة ما بين المُثل القومية الألبانية ورفض التدخل الدولي في شؤون كوسوفو وفضح الفساد الذي تراكم في المؤسسات نتيجة لحكم الحزبين الرئيسيين: حزب الرابطة الديموقراطية والحزب الديموقراطي. ومن هنا جاءت نتيجة الانتخابات التي أشادت بها بعثة الاتحاد الأوروبي، لتترجم على أرض الواقع المانشيت المأخوذ من تقرير «المعهد الدولي لدراسات الشرق الأدنى والبلقان»: القوى الدولية قررت استبعاد ثاتشي وفسح المجال لكورتي. فقد مني الحزب الديموقراطي مصدر قوة ثاتشي بهزيمة قاسية فلم يتمكن من أن يحصد مع تآلفه مع الحزبين الآخرين (التحالف لأجل مستقبل كوسوفو وحزب المبادرة من أجل كوسوفو) إلا على 34.07 في المئة، أي أقل مما حققه وحده في انتخابات 2014، كما مني الحزب المنافس (الرابطة الديموقراطية) بهزيمة قاسية فلم يتمكن من الفوز سوى ب25.74 في المئة من الأصوات ليحل بذلك في المرتبة الثالثة. أما المفاجأة الكبرى فقد كانت في تقدم حزب «تقرير المصير» الذي خاض الانتخابات منفرداً وحلّ في المرتبة الثانية بنسبة 27.03 في المئة. ومع ترجمة هذه إلى مقاعد برلمانية سيحصل التحالف الأول على 39 مقعداً في البرلمان (من أصل 120)، بينما سيحصل حزب «تقرير المصير» على 31 مقعداً والتحالف الذي تقوده «الرابطة الديموقراطية» على 30 مقعداً، بينما ستتوزع المقاعد الأخرى على أحزاب الأقليات (الصرب والأتراك والبشناق والغجر الخ). ومن هنا لخّص الناشر والسياسي الكوسوفي المعروف فيون سوروي نتائج الانتخابات في حديث له بالقول إن «غالبية الشعب عبّرت عن رغبته في التحرر من عصابة برونتو». ومن ناحية أخرى، وعلى رغم أن الانتخابات أجريت في شهر رمضان الذي استغله في شكل خاص حزب «الكلمة» ذو الاتجاه الإسلامي برئاسة النائب السابق غزيم كلمندي، إلا أن النتائج جاءت مخيبة لآمال الإسلاميين فلم يتخط هذا الحزب حاجز ال1 في المئة في بلد يشكل فيه المسلمون 95 في المئة، وهو ما لا يتيح له دخول البرلمان. ونظراً إلى أن النتائج الحالية جاءت بعد فرز 99 في المئة من الأصوات، إلا أن تدقيق النتائج يحتاج إلى أسبوعين على الأقل، إذ ستقوم «لجنة الانتخابات» برفع النتائج الرسمية النهائية إلى رئيس الجمهورية الذي يدعو البرلمان إلى الانعقاد. وبحسب الدستور يفترض أن يقوم الرئيس ثاتشي بتكليف التآلف الذي حصل على أعلى الأصوات (أي حزبه السابق مع الحزبين الآخرين الذين يمثلون في كوسوفو ما يسمى «جناح الحرب»)، مع علمه أن هذا التآلف لن يتمكن من تأليف حكومة تفوز بغالبية برلمانية. وفي المقابل دعا كورتي حزب الرابطة الديموقراطية الذي حلّ في المرتبة الثالثة إلى تشكيل تحالف برلماني مريح (61 نائباً على الأقل) طالما أن الطرفين يجمعهما رفض «النظام القديم» أي نظام الفساد المنسوب للحزب الديموقراطي. ومن هنا يتوقع كورتي بعد فشل مرشح التحالف الأول راموش خير الدين (الذي اعتقل أخيراً في فرنسا بطلب من صربيا التي تتهمه بجرائم حرب) بتشكيل حكومة أن يعرض الرئيس ثاتشي عليه تشكيلها باعتباره حلّ في المرتبة الثانية. وإذا نجح كورتي، كما فعل المعارض اليساري زائيف في مقدونيا المجاورة، بجمع تواقيع 61 نائباً، فسيضمن في هذه الحال تدخل الاتحاد الأوروبي للضغط على الرئيس ثاتشي ليحترم قواعد اللعبة الديموقراطية ويكلفه تشكيل الحكومة الجديدة التي ستفتح كل ملفات الفساد بعد أن تخرج الحزب الديموقراطي إلى المعارضة. ومع ذلك لا بد من ترك هامش لمناورات الرئيس ثاتشي الذي عرف خلال قيادته ل «جيش تحرير كوسوفو» بلقب «الأفعى»، لأجل خربطة المشهد البرلماني الجديد للحيلولة دون تحول الحزب الديموقراطي إلى المعارضة حتى إذا كان الثمن الدعوة إلى انتخابات برلمانية جديدة في صيف 2017.