لم ينقطع الأمل على رغم ضآلته، في إمكان التوصل إلى تسوية سياسية في شأن تسمية الرئيس المكلف تشكيل الحكومة اللبنانية العتيدة، تضغط باتجاه تجنيب لبنان الدخول في المجهول أو في دورة جديدة من الفوضى السياسية، فيما تنطلق الاستشارات النيابية الملزمة التي يجريها اليوم رئيس الجمهورية ميشال سليمان وتستمر حتى مساء غد الثلثاء لاختيار من تسميه الكتل النيابية للرئاسة الثالثة، والتي تتزامن مع صدور الإعلان الرسمي عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان لجلاء الحقيقة في جريمة اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، عن أن المدعي العام الدولي دانيال بلمار سلم نسخة عن القرار الظني إلى قاضي الإجراءات التمهيدية دانيال فرانسين. ولعل الآمال المعقودة على رئيس «اللقاء النيابي الديموقراطي» وليد جنبلاط لإنضاج التسوية في اللحظة الأخيرة بدعم من سليمان ورئيس المجلس النيابي نبيه بري تأتي في محلها، باعتبارها خشبة الخلاص الوحيدة لوقف اندفاع لبنان باتجاه المزيد من التوتر السياسي، وتوفير المناخ الرامي إلى تأمين الدفاعات السياسية لاستيعاب تداعيات القرار الاتهامي من خلال إعادة إنتاج حكومة وحدة وطنية خلافاً لتلك المستقيلة التي بقيت قائمة مع وقف التنفيذ. وعلمت «الحياة» أن للتكتم المفروض على نتائج المحادثات التي أجراها جنبلاط مع الرئيس السوري بشار الأسد اول من أمس السبت، أسبابه الموضوعية التي تتعلق بعدم التسرع أو الإسراع في حرق المراحل إفساحاً في المجال أمام رئيس «الحزب التقدمي» لمواصلة مشاوراته انطلاقاً من الأجواء التي عاد بها من دمشق. وبحسب المعلومات، كان جنبلاط مهّد للقائه الأسد بمشاورات بقيت في حلقة ضيقة وشملت الرؤساء الثلاثة والأمين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصر الله، وعكست رغبة منه في الوقوف على وجهات النظر التي أدت إلى تعثر الجهود السعودية - السورية التي كانت تسعى إلى إيجاد مخرج للتأزم السياسي قبل تسلّم القاضي فرانسين نسخة عن القرار الظني، وذلك بعد أن بلغ التوتر السياسي ذروته باستقالة وزراء «8 آذار» العشرة والوزير عدنان السيد حسين المحسوب على رئيس الجمهورية، ما أدى إلى اعتبار حكومة الرئيس سعد الحريري مستقيلة لخروج أكثر من ثلث أعضائها منها. وباشر جنبلاط تحركه كما تقول مصادر مواكبة، «من نقطة الخلل الكامنة في أن الاختلاف الذي أعاق إنجاز التسوية بجهود سعودية - سورية هو في من يبدأ أولاً بتنفيذ الإجراءات المتفق عليها، قوى 8 آذار أم الحريري؟ فجنبلاط كان صرح بأن المشكلة تقنية وأنه لو كان على علم بكل بنودها لكان سارع إلى التحرك قبل أن تبلغ الاتصالات التأزم الذي وصلت إليه». وتضيف المصادر أن جنبلاط توجه إلى دمشق «بعد أن لمس من الحريري كل استعداد للتسوية ما شجعه على أن يطلب فرصة جديدة لإنعاش الجهود السعودية - السورية ولو بالواسطة، لا سيما أن معظم الأطراف المعنية بالتسوية حرصت على تفادي توجيه أي انتقاد للدور الذي قامت به الرياضودمشق رهاناً منها على إمكانية إعادة وصل ما انقطع بينهما». وتؤكد المصادر نفسها أن «رئيس التقدمي لقي لدى الأسد تفهماً لوجهة نظره، ما أتاح له هامشاً من حرية الحركة، شجعه فور عودته إلى بيروت على مواصلة تحركه الوفاقي لا سيما أن كثيرين ممن يرفضون سياسة الغلو في مواقفهم يعتقدون بأن لا قيمة لتسوية سياسية ما لم يكن الحريري على رأس الحكومة العتيدة». وترى المصادر عينها أن جنبلاط على رغم ضيق الوقت «يبقى الأقدر على لعب دور توفيقي لتغليب منطق التسوية على الانجرار إلى منازلة سياسية، ربما تدفع بلبنان باتجاه المجهول، وهو لذلك وفور عودته إلى بيروت تواصل مع سليمان وبري والحريري عبر قنوات الاتصال المعتمدة بينه وبينهم»، وقام وزير الأشغال العامة والنقل غازي العريضي الذي رافقه في زيارته دمشق بدور لافت والتقى الحريري ليل أول من أمس، فيما تابع المعاون السياسي لرئيس المجلس النيابي النائب في حركة «أمل» علي حسن خليل مشاوراته المفتوحة مع قيادة «التقدمي» من دون أن ينقطع عن التلاقي المباشر مع المعاون السياسي للأمين العام ل «حزب الله» حسين خليل. ومع أن الأطراف الرئيسة المعنية بتحرك جنبلاط ترفض تسليط الأضواء على ما يطرحه من أفكار، فإن المصادر المواكبة تعتقد بأنه يتخوف من الارتدادات السلبية للفراغ المترتب على الاختلاف على تأليف الحكومة في حال انتهى التكليف لمصلحة إعادة تسمية الحريري، وبالتالي يسعى للحصول على اتفاق تندرج فيه كل الأولويات الواردة في التسوية السعودية - السورية في سلة واحدة على أن تكون في صلب البيان الوزاري للحكومة الجديدة. وتعتقد المصادر بأن المعركة على تسمية الرئيس المكلف لن تكون رقمية فحسب، «وإنما هناك رغبة في تعبيد الطريق السياسي لجهة عدم الوقوع في أزمة مديدة بسبب الخلاف على مهمات الحكومة ودورها». وتؤكد المصادر أن بري «يبارك تحرك جنبلاط ويبدي كل استعداد لتسهيل مهمته لما بينهما من تلاق في شأن معظم القضايا الأساسية»، لافتة إلى دور سليمان «الذي يتواصل مع رئيس التقدمي ويقف في منتصف الطريق الذي يعطيه حق الضغط في كل الاتجاهات لتمرير عملية التكليف والتأليف بسلام أو بحد أدنى من الأضرار السياسية». وتضيف أن سليمان «يضغط على جميع الأطراف لإعادة الاعتبار لمسألة تأليف حكومة وفاقية تتمتع بتأييد الكتل النيابية الرئيسة»، وتقول انه «لن يقع في المحظور الذي يرتب على البلد متاعب سياسية في حال ارتأى البعض المجيء بحكومة أكثرية فاقدة للميثاقية أو ناقصة للتمثيل السياسي». وتستذكر المصادر موقف سليمان من تشكيل حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الحريري لجهة «إصراره على أن تكون شاملة التمثيل ورفضه التوقيع على مراسيم تتناقض وتوجهه، مع أن الحريري حينها لم يكن في وارد إلغاء أحد وهذا ما دفعه للاعتذار أولاً ليعاد تكليفه ثانية وينجح في المجيء بحكومة من 30 وزيراً». وتستعيد المصادر موقف سليمان من حكومة الوحدة الوطنية المستقيلة لتؤكد قدرته على الإمساك بزمام المبادرة باعتباره «صمام الأمان لضبط آلية التأليف» لا سيما انه لم يستجب لطلب وزراء المعارضة الدعوة لعقد جلسة استثنائية لمجلس الوزراء سبقت استقالتهم وكان حملها إليه وفدها المؤلف من زعيم «تيار المردة» سليمان فرنجية والمعاونين السياسيين لبري والسيد نصر الله ومسؤول الاتصالات السياسية في «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل. وعلمت «الحياة» أن طلب المعارضة من سليمان الدعوة لعقد جلسة استثنائية لمجلس الوزراء الذي جاء قبل يوم من استقالة وزرائها من الحكومة أي الخميس الماضي، لقي تفهماً لدى الرئيس لكنه أوضح للوفد انه يريد التشاور مع رئيس الحكومة، خصوصاً أن الطلب يقترن بجدول أعمال لوقف التعاون مع المحكمة الدولية ووقف تمويل لبنان لها وسحب القضاة اللبنانيين منها. واقترح وفد المعارضة على رئيس الجمهورية أن يتشاور مع الحريري في عقد الجلسة الاستثنائية، على أن يعلمه لاحقاً بمطالب المعارضة من الجلسة لكنه أصر على التشاور معه لأنه بحسب الدستور لا يأخذ على نفسه تجاوزه سواء بالنسبة للدعوة للجلسة أم لتحديد جدول أعمالها. وعليه، فإن الرهان على التسوية لم يتراجع كلياً ما دام جنبلاط لم يوقف تحركه بدعم من سليمان وبري وأن مبادرة «حزب الله» إلى رفع سقفه السياسي تصب في انتزاع موافقة الآخرين على طلبه متسلحاً بموقف بري وقوى المعارضة في كل ما يتعلق بالمحكمة، على رغم ما يتردد من أن موقفه نهائي من عدم تسمية الحريري لرئاسة الحكومة، فيما يذهب حليفه رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون بعيداً في طروحاته وكأنه يراهن على تحول دراماتيكي في القواعد السياسية يعيد إليه حلمه الذي راوده عام 1989 في الوصول إلى سدة الرئاسة الأولى مع انه يصطدم بعوائق سياسية يعرفها قبل غيره.