انتقل الفن الياباني، ومعه اليابان، في منتصف القرن الثامن عشر، من عقدة الاضطهاد والمؤامرة والشك بأوروبا، التي حاولت استعمار هذا الأرخبيل الراقص أبداً بسبب الهزات الأرضية اليومية، إلى عقدة التفوق والاعتداد والفخر الوطني. هدأت هذه الجذوة بسبب الهزيمة الساحقة الذرية في أواخر الحرب العالمية الثانية والدعوة الجادة البديلة لثقافة الحرب (الساموراي والكاميكاز، وتطور أسلحة الحرب المعدنية من خلال التجارب الفظائعية في الآخر)، إلى ثقافة الجيدو والأيكودو بخاصة اليوغا (بوذية التوازن الروحي والبسيكولوجي). وتعويض التفوق العسكري بالتفوق التقني ومشاركتهم الفعلية في مستقبل الحداثة والمعاصرة الفنية والتقنية الأوروبية. وصناعة الإلكترونيات بخاصة عدسات الكاميرات وأجهزتها المتطورة والموبايل، ناهيك عن الابتداء بصناعة الكاوتشوك لاحتكار إنتاج دواليب السيارات عالمياً، ثم تطور صناعة الأقمشة وسواها. إن زهو التطور الصناعي أدى إلى ازدهار الفنون والإهتمام بجمع الآثار الفنية المعاصرة اليابانية - الأوروبية. واللوحات التي مهدت للانطباعية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر واللوحات الانطباعية وما بعد في أوائل القرن العشرين وصولاً حتى تجريد ما بعد الحرب في الستينات وما تمخض عن هذه الفترة من اتجاهات لصيقة مثل الوحشية والتكعيبية وسواهما. ترجع هذه الأفضلية لقناعة النقاد ومؤرخي الفن اليابانيين «عن حق» بأن أصول الإستامب الطباعي الياباني وبخاصة معلميه الكبار مثل هيروشيج وهوكوساي، أثرت في شكل مباشر على التحديثات الفراغية الفرنسية خصوصاً، (والأوروبية عموماً) على غرار المنظور العمودي المقلوب واستعارة بعض الموتيفات، نموذجها الجسر الياباني الذي جعله مونيه جزءاً من حديقته، واستعارات فان غوغ الصريحة من كنوز الرسم الياباني. لعل أبرز أصحاب مجموعات الفن الأوروبي والياباني المعاصر هو أيشيباشي (1889-1976)، ابتدأ باقتناءاته المبكرة منذ عام 1930، تحتفظ مؤسسته اليوم ب 2600 لوحة فنية تشكيلية طليعية من أقطاب الإنطباعية الفرنسية وما بعدها وما قبلها، استلم إدارة المؤسسة ابنه ثم حفيده مع استمرارهما في توسيع مساحة الاقتناء مع مرور الوقت. وهم يشيدون متحفاً للمجموعة في قلب طوكيو عام 1952، ثم أصبحت المجموعة الأساسية لمتحف طوكيو للفن المعاصر الذي تأسس بعد الترميم الاقتصادي لليابان إثر هزيمتها بسنوات عدة، استكملت المجموعة من إعارات مجموعات الصناعيين النظراء على طريقة تجميع لوحات متحف المتروبوليتان في نيويورك. تحت عنوان «طوكيو - باريس اللوحات المنسية من الفن الفرنسي المعاصر» نشهد نقل المجموعة من متحف طوكيو (بمناسبة عطلة الإصلاحات) إلى متحف الأورانجوري على ضفة نهر السين في قلب العاصمة الفرنسية، تعرض هذه المجموعة للمرة الأولى على رغم معانقتها نماذج بالغة الأهمية، هو ما يفسر عبارة «المنسية» في العنوان الفرعي أما العنوان الرئيسي «طوكيو - باريس» فقد اقترحه الكوميسير الياباني (مدير المتحف المذكور وهو شيمباتا) بسبب عقدة التفوق والاعتداد الثقافي كما ذكرت، ذلك أن أبرز المعارض الموسوعية التي أقيمت في باريس متحف مركز بومبيدو هي سلسلة: باريس - برلينوباريس - نيويوركوباريس - موسكو وختامها باريس - باريس من دون أي ذكر لطوكيو. علماً أن الكوميسير المناظر في المعرض هي بدورها مديرة متحف الأورانجوري السيدة سيسيل جيراردو، وعلماً أن لمتحف أورسي دوراً أساسياً في تحقيق هذا المشروع. ابتدأ العرض منذ الخامس من نيسان (أبريل) مستمراً حتى أواخر آب (أغسطس). أي خلال الأشهر السياحية. تعانق هذه الجموعة المتكاملة نماذج مقدمات الانطباعية على غرار «الطبيعية» مثل مناظر مييي «والواقعية» مثل مقاطع جوستاف كوربيه عن كائنات الصخور كما تحتوي على نماذج مبهرة من فناني عقد «الانطباعية» على غرار أجمل لوحة لرونوار «الطفلة الجالسة»، وأبرز لوحات مانيه (الأوتوبورتريه) وروائع باليه ديغا ومناظر كلود مونيه المبكرة، ناهيك عن تنقيطية بيسارو وسنياك وسورا و «وحشية» ماتيس وتكعيبية سيزان (في أشد لوحاته عن جبل سان فكتوار) بلاغة وصولاً حتى أوائل بيكاسو ثم مرسى التجريدية الغنائية بمشاركة قطب آسيوي باريسي هو زاووكي، عبوراً من دون كيشوت للفنان دوميية وطاحونة فان غوغ التي استلهمها المخرج كيروساوا في فيلم «أحلام». والاهتمام في شكل خاص بالنحت بمركزة رودان وسابقه بورديل وخليفته زادكين وجياكوميتي وبرانكوسي. هناك محاولة للتوازن في المجموعة بين فن اليوغا والفن المعاصر الفرنسي (إضافة إلى الأميركي روتكو)، نطالع لوحات مدهشة يابانية رغم تواضع معرفتنا بفنانيها من مثال: شيكيرو آوكي وساكاموتو وفوشيما. يملك اليابانيون المتنورون ذلك الشغف نحو الموسيقى والثقافة والفنون الغربية، لعل أبلغ أمثلتها عازفة البيانو العالمية ميتسيكو مع فرقتها المختصة بموزار، وقد يتفوق نموذج المخرج العالمي كيروساوا في أفلامه الملتصقة بالخصائص الثقافية اليابانية على سواه، في فيلمه الثالث عن سيرة فرسان الساموراي بعنوان ظل المحارب (كاريموشا)، يستخدم نواظم هندسة الفراغ العمودي كمنظور شائع في الإستامب، وهكذا.