يقع أرخبيل كيلينغ في مكان معزول من المحيط الهندي، وذلك في منتصف المسافة بين أسترالياوسريلانكا. الأرخبيل يسكنه حوالى 600 شخص فقط، وهو يعاني من مشكلة كبيرة في إدارة النفايات، ليس بسبب ما يرميه مواطنوه، إنما نتيجة ما يحمله البحر من مخلفات يلقيها على الشاطئ. تحمل تيارات المحيط النفايات إلى الأرخبيل من مناطق تبعد عنه آلاف الكيلومترات مثل سريلانكا وجزر المالديف وإندونيسيا وماليزيا وتايلاند والصين. وقد أجرى تحالف من جمعيات حماية البيئة الأسترالية والوكالات الحكومية مسحاً للنفايات على شواطئ الأرخبيل، حيث غطى المتطوعون نحو 3.5 كيلومتر من الشاطئ، وجمعوا ما يزيد عن طنين من نفايات المحيط، فتبين لهم أن البلاستيك يشكّل 80 في المئة مما جمعوه. هذا نموذج صغير من مشكلة متفاقمة تضرب جميع المحيطات والبحار والشواطئ حول العالم. فالمخلفات البلاستيكية التي يحملها البحر ويلقيها على الشواطئ هي الجزء الظاهر من جبل الجليد، وأخطار المواد البلاستيكية في عمق المحيطات أكبر بكثير من أخطار تلك التي تلفظها على اليابسة. حجم المشكلة وانتشارها هيمنت المنتجات البلاستيكية على الأسواق الاستهلاكية منذ بدء استخدامها تجارياً في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي. والإنتاج العالمي من القطع البلاستيكية بلغ 288 مليون طن عام 2012، بزيادة قدرها 620 في المئة مقارنة بإنتاج عام 1975. مخلّفاتها في البحار تثير قلقاً متزايداً لصعوبة تحلّلها، وتأثيراتها السلبية في البيئة المائية والأحياء فيها، وكذلك على البشر. ويمكن إيجادها على السواحل كما في جليد القطب الشمالي وفوق سطح البحر وفي القاع. منذ سبعينات القرن الماضي، حاولت دراسات كثيرة تقدير كميات المخلفات البلاستيكية التي تلقى في البحر سنوياً، ومن بينها دراسة نُشرت في مجلة Science عام 2015، قدّر فيها الباحثون أن كمية النفايات البلاستيكية التي تم توليدها في سنة 2010 من جانب 192 بلداً شاطئياً كانت بحدود 275 مليون طن. وقد تسرّب منها ما بين 4.8 إلى 12.7 مليون طن إلى المحيطات. أي بحدود 8 ملايين طن وسطياً، وهذا ما يعادل إلقاء 20 ألف قارورة بلاستيكية إلى البحر في كل ثانية. أما كمية النفايات البلاستيكية المتراكمة في البحر فقدّرت بحدود 150 مليون طن عام 2015. فإذا أخذنا نسبة نمو محافظة للمخلفات البلاستيكية التي تصل البحر مقدارها 5 في المئة سنوياً، تصل الكمية السنوية إلى 250 مليون طن في سنة 2025. أما في سنة 2050 فستكون المخلفات البلاستيكية أثقل من مجموع أوزان السمك في المحيطات، ما لم يتم اتخاذ ترتيبات أكثر فاعلية. تلعب التيارات البحرية دوراً كبيراً في حركة النفايات البلاستيكية وانتشارها في المحيطات. وعلى عكس ما تتناقله وسائل الإعلام، فإن هذه النفايات لا تشكل جزراً واضحة المعالم أو «قارة سابعة» في شمال شرق المحيط الهادئ تفوق في مساحتها ست مرات مساحة فرنسا. فعلياً، توجد مناطق كثيرة في جميع المحيطات توصف بأنها «رقعة نفايات» تظهر بفعل الدوامات المائية والرياح، وهي تضم تركيزات مرتفعة من النفايات البلاستيكية الصغيرة الحجم والمعلقة على كامل ارتفاع الكتلة المائية في شكل يشبه مسحوق الفلفل في طبق الحساء. رقع النفايات حول العالم إن تفتت وتكسر المخلفات البلاستيكية بفعل العوامل الجوية يحولانها إلى حبيبات دقيقة يسهل ابتلاعها من الكائنات البحرية اللافقارية الصغيرة، مثل العوالق (البلانكتون). كما أن الحجم الصغير للحبيبات يجعل تعقبها متعذراً، وهذا يشير إلى أن أفضل الاستراتيجيات للتخفيف من أخطار المخلفات البلاستيكية هي في تخفيض إنتاجها من المصدر. يوجد أكثر من مئة ورقة بحثية ناقشت مسألة الحبيبات البلاستيكية الدقيقة في البيئة البحرية، وهي تشير إلى وجود هذه الحبيبات في جميع الموائل البحرية، وتتفق على أن جميع الكائنات المائية في خطر نتيجة تفاعلها مع الحبيبات البلاستيكية. ومن بين هذه الأخطار تسلل البلاستيك إلى السلسلة الغذائية من قاعدتها المتمثلة في الكائنات الصغيرة وصولاً إلى الإنسان. كمية الحبيبات البلاستيكية الدقيقة التي تتشكل سنوياً في البحار هي بحدود خمسة تريليونات حبة تزن بمجموعها أكثر من 250 ألف طن. ويجد جزء منها طريقه إلى أجسام العوالق والكائنات الأخرى، كالقريدس وبلح البحر والحيتان والطيور، وتترك في أنسجتها آثاراً سمية تراكمية. إحدى الدراسات أجرت فحصاً شمل أكثر من 500 سمكة تنتمي لخمسة أنواع تنتشر في بحر المانش، فعثرت على حبيبات بلاستيكية دقيقة في المسالك المعوية لثلث هذه الأسماك، ولم يكن هناك فارق بين أسماك السطح وأسماك القاع. من اللافت أن مادة «الرايون» التي تدخل في صناعة الأنسجة وجدت في نصف الأسماك المتضررة، أما مادة «متعدد الأميد» التي تنشأ عن الصوف والحرير وتدخل في صناعة الرقائق البلاستيكية فكانت موجودة في ثلث الأسماك المتضررة. من ناحية أخرى، تشكل الرقائق البلاستيكية التي تطفو مثل قناديل البحر خطراً على السلاحف البحرية التي تبتلعها أو تتناولها من طريق الخطأ مع غيرها من المواد الغذائية. ونتيجة لهذا تصاب بانسداد في الأمعاء يمكن أن يؤدي إلى سوء التغذية وتراجع معدل النمو وأحياناً الموت. إحدى الدراسات أشارت إلى أن السلاحف الضخمة الرأس، في المحيط الهندي بين موريشيوس ومدغشقر، تناولت أشكالاً عدة من المخلفات البلاستيكية كالحبال والأسلاك والرقائق والعبوات الصلبة واللينة وأغطية القوارير. ووفق الدراسة، فإن أكثر من نصف السلاحف ابتلعت مخلفات بحرية كان البلاستيك يشكل 93 في المئة من تركيبها. في أماكن أخرى، كجنوب غرب المحيط الهادئ وخليج المكسيك والبحر المتوسط، كان البلاستيك يمثل 80 في المئة من المخلفات التي تتناولها السلاحف البحرية. وقدرت دراسة تم نشرها سنة 1997، وجود البلاستيك في أمعاء 86 في المئة من أنواع السلاحف و43 في المئة من أنواع الطيور و44 في المئة من الثدييات البحرية. هذه النسب ارتفعت في شكل كبير مع مرور الوقت، حيث قدرت دراسة في 2015 وجود البلاستيك في أمعاء 90 في المئة من الطيور البحرية، وسترتفع النسبة إلى 99 في المئة بحلول 2050. الأسلاك والعبوات البلاستيكية يمكن أن تلتف على أجسام الأحياء البحرية فتقيد حركتها وتعيق نموها وتسبب موتها. كما أن المخلفات الكبيرة والثقيلة تساهم في سحق وتدمير الشعب المرجانية. وعندما تكون المخلفات ضخمة وغارقة في مياه قليلة العمق، فهي تشكل خطراً على السفن والمراكب، سواء بإلحاق الضرر بهياكلها أو بتعطيل مراوح محركاتها. المخلفات البلاستيكية كما أن التصاق الكائنات البحرية بالمخلفات البلاستيكية يتيح لها فرصة الانتقال إلى مسافات بعيدة عن مواطنها الأصلية، فتصل إلى موائل جديدة على البر أو في البحر، وتصبح بمثابة كائنات غازية يكون لها تأثير مدمر في مصائد الأسماك والنظم الإيكولوجية المحلية. ولئن كانت الأضرار السابقة تؤثر في شكل أو في آخر في الاقتصادات العالمية، فإن المخلفات التي ترمى على الشواطئ أو تصل إليها من البحر تلحق ضرراً مادياً مباشراً بالمجتمعات المحلية، التي يقوم اقتصادها على السياحة. فهي تحط من جمال الطبيعة الساحلية وتستهلك الموارد من أجل إزالتها والتخلص منها. البحث عن حلول دفعت الأخطار الصحية والاقتصادية والبيئية الناتجة من المخلفات البلاستيكية العديد من الدول إلى اعتماد سياسات مختلفة لمواجهة المشكلة، تقوم على خفض الكميات التي يجرى رميها في البحار. وفي حين أن السياسات الرامية إلى تخفيض كمية المخلفات التي تدخل البيئة مفيدة على المدى الطويل، فإن السياسات المتصلة بالمخلفات التي تحتضنها البحار حالياً محدودة وقليلة الأثر، وبالتالي ستكون هناك أجيال قادمة من الكائنات الحية تعاني من البلاستيك الذي لا يتحلل بسهولة في البحر. تتطلب مواجهة هذه المشكلة تعاوناً دولياً واسع النطاق وعابراً للحدود. ومن شأن اعتماد تغييرات في صناعة البلاستيك، تشمل إقلال سميته وتسريع تحلله وزيادة كثافته، أن يقلّل من احتمالات وأضرار ابتلاع مخلفاته. وفي الاتجاه ذاته، تصب التشريعات التي اعتمدتها دول كثيرة في تقييد استخدام المنتجات البلاستيكية، وكذلك المبادرات التي بدأتها بعض الشركات الخاصة في الحد من استخدام البلاستيك والاستفادة من المخلفات التي يتم استرجاعها من البحر. صحيح أن مبادرات منظمات المجتمع المدني في حملات تنظيف الشواطئ وجمع النفايات تساهم في توعية الناس إلى المشاكل التي تنتج من الاستخدام غير العقلاني للمواد الاستهلاكية. وتذكرهم باتباع مبادرات على المستوى الشخصي تقلّل من حجم المخلفات، كاستخدام أكياس التسوق القماشية، وتجنب المواد ذات الاستخدام الواحد، والتخلص من النفايات في أماكنها الصحيحة. لكن هذا وحده لا يكفي، إذ المطلوب تشريعات صارمة لتخفيض استخدام البلاستيك ورميه، وتطوير أنواع يمكن إعادة استعمالها. وقد تكون المبادرة الوحيدة الواعدة لتنظيف المحيطات من الفضلات البلاستيكية المتراكمة عبر السنين، تلك التي أطلقها الشاب الهولندي بويان سلات. فهو طوّر فكرة مبتكرة لجمع البلاستيك بالاعتماد على التيارات البحرية. واختبر بنجاح عام 2016 نموذجاً عائماً لشبكة على شكل U لاصطياد المخلفات البلاستيكية في بحر الشمال. وقد استطاع سلات استقطاب مساعدات بعشرات ملايين الدولارات، على شكل هبات من أفراد ومنظمات، إلى جانب «تمويل جماعي» ساهم فيه 38 ألف شخص من 160 دولة. وهذا سمح للمؤسسة التي أطلق عليها اسم «حملة تنظيف المحيط» من الاستعداد الفعلي لتنفيذ مشروع طموح، يبدأ في 2018 ويستمر خمس سنوات، لتخليص المحيط الهادئ من نصف النفايات البلاستيكية التي تنتشر فيه. والمؤسسة تبني حالياً نظاماً عائماً من الأنابيب والشباك بعرض يتراوح بين ألف وألفي متر، لتجميع القطع البلاستيكية في نقطة مركزية تمهيداً لنقلها بالسفن إلى الشاطئ. وإذا كانت هذه هي المبادرة الوحيدة الجدية لتنظيف المحيطات، غير أن تحديات كبرى تواجهها. فبناء شبكة ضخمة عائمة وتشغيلها في وسط المحيط عملية جديدة كلياً وغير مجرّبة سابقاً، وهي تختلف عن النموذج التجريبي. ولو نجحت التجربة، فهي تبقى المرحلة الأولى، إذ تتبعها عملية التخلص من النفايات البلاستيكية الملتقطة. ويتخوف البعض، في حال عدم وجود حل لهذه المعضلة، أن تنتقل المشكلة من نفايات في البحر إلى نفايات على البرّ. ويبقى الحل الأمثل تبديل أنماط الإنتاج والاستهلاك، وتخفيف المخلفات البلاستيكية من المصدر. * يُنشر بالاتفاق مع مجلة «البيئة والتنمية»