مثّلت الأحداث في تونسوالجزائر خلال الأيام والأسابيع الماضية تحدياً مهماً للأوضاع الاقتصادية القائمة في البلدين، بل ربما تكون هذه الأحداث قابلة للتكرار في بلدان عربية أخرى تعاني من معضلات ومصاعب معيشية مماثلة. ولا شك في أن هناك واقعاً اقتصادياً يتطلب المراجعة والمعالجة من دون إنكار للمشاكل وخطل السياسات التي ظلت معتمدة في العديد من البلدان العربية من دون تغيير. بداية لا بد من أن نقر بمحدودية الإمكانات لدى الحكومات في البلدان العربية تجاه المشاكل الاجتماعية إذ تعجز الموارد السيادية عن مواجهة متطلبات التنمية والمعيشة. وإذا أخذنا تونسوالجزائر مثالاً، نجد أن الإمكانات لا تتوافر، على رغم أن تونس تمكنت من تحسين جاذبيتها السياحية، ما زاد من مداخيلها السيادية، كما أن تحويلات العاملين من التونسيين في الخارج عززت تلك المداخيل، بالإضافة إلى تصديرات محدودة من النفط، إلا أن النمو الديموغرافي يضيف سنوياً أعباءً جديدة على كاهل الاقتصاد الوطني. أما الجزائر فلديها مداخيل مهمة من النفط، وهي من الدول الأعضاء في "منظمة البلدان المصدرة للنفط" (أوبك)، كما أنها من الدول المهمة في إنتاج الغاز الطبيعي وتصديره، لكن هناك تزايداً في أعداد السكان والمتدفقين الشباب إلى سوق العمل بما يجعل الإمكانات أقل من الاحتياجات. ولا شك في أن مقدرة الحكومة والقطاع الخاص في كل من تونسوالجزائر على إيجاد فرص عمل ظلت محدودة بفعل عدم فاعلية الإصلاحات الاقتصادية وصعوبات تنويع القاعدة الاقتصادية. يبلغ عدد سكان تونس 10.5 مليون شخص بموجب تقديرات عام 2009، منهم 7.4 مليون في سن العمل (15 - 64 سنة)، ويبلغ حجم قوة العمل 3.7 مليون شخص في حين تُقدر نسبة البطالة ب 16 في المئة. وهناك ما نسبته 7.5 في المئة من سكان تونس ممن يعتبرون ما دون خط الفقر المعتمد دولياً، أي معدل دخل مقداره دولاران يومياً. وعلى رغم أن معدل النمو السكاني في تونس معقول، وربما منخفض قياساً إلى العديد من البلدان العربية، إلا أن ضعف الموارد لا يعزز القدرات الاقتصادية لمواجهة متطلبات المعيشة. ويُقدر معدل النمو السكاني بواحد في المئة سنوياً في حين يُقدر معدل النمو الاقتصادي عام 2009 ب 0.7 في المئة، والناتج المحلي الإجمالي ب 83.5 بليون دولار، أي أن معدل دخل الفرد كان ثمانية ألاف دولار سنوياً. وكان هناك العديد من الاقتصاديين الذين نظروا إلى تونس في شكل إيجابي منذ بداية عهد الاستقلال بقيادة الراحل الحبيب بورقيبة الذي اعتمد سياسات اجتماعية واقتصادية ليبيرالية وكان منفتحاً على القيم والمفاهيم العصرية ودعم الانفتاح الاقتصادي. وظلت نقابات العمال في تونس في حال تصالح مع النظام السياسي، على رغم حدوث اضطرابات عمالية وأحياناً أحداث ذات صلة بارتفاع أسعار السلع الغذائية ومواد الوقود وتكاليف الخدمات. وجاءت الأحداث الأخيرة بعد سكون لمدة زادت عن العقدين من الزمن لتؤكد أن المشاكل الأساسية المتعلقة بالمعيشة في تونس لا تزال كامنة وتتطلب معالجات منهجية للحد منها والسيطرة على أسباب التذمر الاجتماعي. أما الاقتصاد الجزائري فمر بمراحل عديدة وتبنت الحكومات سياسات متفاوتة على مدى العقود الخمسة الماضية. واتبعت الحكومة الجزائرية عشية الاستقلال عام 1962 سياسة اقتصادية شمولية اعتمدت على دور مهيمن للدولة ونظام التسيير الذاتي في قطاع الزراعة تقليداً لما كان متبعاً في يوغسلافيا تحت حكم الراحل جوزيف بروز تيتو. ولم يغير التغيير الذي حدث في النظام السياسي بعد إزاحة أحمد بن بلا وسيطرة الراحل هواري بومدين على السلطة، في طبيعة الهيكل الاقتصادي كثيراً، وإن حد من النزعات الاشتراكية لدى السلطة. بيد أن الجزائر وبعد رحيل بومدين دخلت مخاضاً سياسياً صعباً وتأججت الصراعات بعد إجهاض الانتخابات عام 1991 ما دفع قوى إسلامية إلى حمل السلاح واتباع نهج الإرهاب فقُتل ما يزيد عن مئة ألف جزائري. وكان لهذه الصراعات الرهيبة تأثيراتها السلبية في الاقتصاد الجزائري فتعطلت الأعمال وتراجع معدلات النمو الاقتصادي. وقُدِّر الناتج المحلي الإجمالي في الجزائر في عام 2009 ب 240 بليون دولار، ومعدل النمو ب 2.2 في المئة، وبلغ متوسط دخل الفرد نحو 7100 دولار سنوياً. لكن الجزائر التي يبلغ عدد سكانها 37.2 مليون شخص، تواجه مشاكل في إيجاد فرص العمل إذ يُقدّر معدل البطالة ب 10.2 في المئة. ومعلوم أن الجزائر تنتج 2.1 مليون برميل من النفط يومياً، وتمثّل إيرادات النفط 60 في المئة من موارد الموازنة العامة، لكن تلك الإيرادات تظل عاجزة عموماً عن الوفاء بالالتزامات الحكومية. ليست محدودية الإيرادات في أي بلد من بلدان العالم أمراً جديداً أو غريباً، فهناك العديد من البلدان التي تعاني من هذه الظاهرة. كما أن بلداناً عديدة اتسمت بحجم سكاني كبير، تمكنت من التغلب على مصاعب الموازنة بين القدرات والمتطلبات وتمكنت من تعزيز تطوير الصناعات التحويلية والزراعة وزيادة الصادرات من السلع المصنعة. يُضاف إلى ذلك تلك البلدان مثل كوريا الجنوبية والصين وعدد آخر من بلدان شرق آسيا، تمكنت من تطوير أنظمتها التعليمية لتفعيل الإنتاجية والارتقاء بالكفاءة والجودة في أعمالها. وغني عن البيان أن البلدان المشار إليها زادت من جاذبية الاستثمار فيها فتوطنت داخلها أموال أجنبية في العديد من القطاعات. وربما يزيد من مشاكل تونسوالجزائر وعدد آخر من البلدان العربية غياب الرؤية الإستراتيجية وضعف توظيف الموارد الاقتصادية والبشرية على أسس موضوعية وناجعة. هذه المسائل يجب أن تُناقش في المؤسسات السياسية والاقتصادية المنوط بها القرار وتبني معالجات واضحة تتسم بالشفافية كي يمكن لأطراف المجتمع المدني كلها تداولها وإبداء الرأي في شأنها. وبطبيعة الحال قد لا تجعل تراكمات الماضي من المعالجات ذات آثار إيجابية سريعة، إلا أن اتخاذ خطوات جادة قد تجعل شعوب هذه البلدان أكثر صبراً وتفهماً. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية - الكويت