هو كابوس بكل المقاييس! اختفت الأهرامات الثلاثة، فلا «خوفو» الأكبر يبدو شامخاً متحدياً الزمن وشارداً ببصره محاولاً تجاهل قبح العشوائيات المعمارية المتكاثرة حوله، ولا «خفرع» الأوسط يبدو متجاهلاً هول الطريق الدائري الذي تحول إلى مقبرة لأحفاده، ولا حتى «منقرع» بات متقوقعاً في وقفته التي طالت. حتى هرم سقارة المدرج، بدا وكأنه مَلَّ تدرجه غير المعتاد، فآثر الانسحاب. وامتدت الكارثة إلى تمثال أبي الهول، الذي كان يطل على الأحوال المزرية من حوله. لكن الأغرب كان اختفاء العديد من الجداريات الفرعونية في مقبرة بني حسن الشهيرة في المنيا، فلم تعد هناك الرسمة التي تظهر فيها حركة المطرب، وهو يغني واضعاً كفه الأيسر خلف أذنه بهدف تكبير الصوت وزيادة الإحساس بالرنين. وانتقلت عدوى الاختفاء المريب إلى جداريات حفرها المصريون القدماء ليوثقوا أزياء وإكسسوارات وتسريحات شعر. لغز الاختفاء الذي أذهل العالم امتد أيضاً إلى التوثيق الفرعوني لتقنيات الزراعة والري والحصاد، كما اختفت أروع الصور والكتابات التي صورت فصل الربيع وارتباطه ببدء موسم الحصاد، ومعها تبخرت تماماً وصفات وجبات عيد «شم النسيم». فها هي طريقة تمليح الأسماك وحفظها بات يقدمها «شيف» فرعوني ماهر وهو يشرح بالصورة الصلة الوثيقة بين السمك الذي وقف يملحه وبين جسد المعبود «أوزوريس». وذهب ال «شيف» إلى أبعد من ذلك، فربط بين استخدام الملح في حفظ الأسماك، وتحنيط الموتى لحفظ أجسادهم. حتى الوثائق الجدارية التي وصفها البعض بأنها على درجة كبيرة من الجرأة، والتي أمعن المصريون القدماء أثناء رسمها في توضيح القبلات ومكافأة الملكات للجنود العائدين من المعارك بطبع العشرات منها على وجناتهم، اختفت. كما لم يعثر أحد على التماثيل التي كانت تمثل معاني الخصوبة عند القدماء، وتستخدم للعقم. ثم فجأة أعلنت الجهات الأمنية توصلها لفك اللغز الكبير. لم تتعرض حضارة المصريين القدماء للنهب أو السرقة أو التهريب، كما أنها لم تكن هدفاً لجهات أجنبية تعمل على طمس الحضارة الأعظم. كل ما في الأمر أن المصريين القدماء كانت لديهم قنوات فضائية خاصة بهم، وقرروا فجأة أن يستعيضوا بها كأدوات توثيقية بدلاً من آلاف المعابد والجداريات والأهرامات. لقد قاموا في غفلة من الجميع بتخزين ما توصلوا به على شرائط وأسطوانات مدمجة يمكن لمن يود الاطلاع عليها تشغيلها أو بثها للعرض، وذلك توفيراً للمساحات الهائلة التي تشغلها آثارهم. وهكذا ظهرت «ميلودي فراعنة» لعرض أغنياتهم وموسيقاهم، و«الفراعنة الوثائقية» لبث إنجازاتهم في الزراعة والصناعة، و«إيزيس فاشون» لشؤون النساء، «مع الشيف بتاح حتب» لوصفات الأكل الشهية. نحمد الله كثيراً أن هذا لم يحدث، وإلا لضاعت إنجازات الحضارة على متن الفضائيات، وأدام علينا نعمة الفضائيات العربية الحديثة التي سنتركها للأجيال المقبلة بديلاً عن التاريخ غير الموثق.