بين إعلانات التعازي ودعوات الزواج «أجيال» من التحولات والتغيرات الكبرى في المجتمع السعودي، قفزات نحو وراء، بل إن الوراء كان أجمل وأفضل مما لحق بتركيبتنا الاجتماعية. ربما هو نكوص لم نستوعب عواقبه حتى الآن، إلا أن أخطره كان ولا يزال «متغير البناء الاجتماعي»، ذلك البناء الذي بدأت بوادر توجهه نحو الانتماء العائلي والقبلي، والطائفي، ولعل قضايا تكافؤ النسب التي انتشرت في السنوات الأخيرة «تفجر» ذلك المتغير وتفضحه. تدهشك بين الحين والآخر إعلانات التعازي التي تُنشر في الصحف السعودية بأسماء مختلطة، تنتمي لعائلات وقبائل متنوعة، تلك الإعلانات في معظمها لرجال وسيدات في أعمار متأخرة، تكشفها أسماء الأبناء والأحفاد، تنتمي تلك العائلات إلى أصول بدوية وحضرية، وأحياناً عربية، جمعها الرحم والعمومة، وخلطها ببعضها البعض الزواج المبني على «الكفاءة المدنية». مصدر المفاجأة ليس في تنوع العائلات وتشابكها، بل لأن جيلنا الحالي يكاد لا يعرف تلك التجربة الثرية، إن لم يكن فقدها بفعل الانكفاء والانحسار نحو داخل الداخل. بالتأكيد تفاجأ وكأن أولئك «المتمدنون» لم يعيشوا بيننا ذات يوم، كأنهم أقوام غير أقوامنا الذين انتشروا في المحاكم رافعين قضايا «تفريق الأسر» بحجة تكافؤ النسب. كيف أسسوا لتلك الحياة المدنية، لقد خبروا أشياءً لم نختبرها، وفهموا أشياءً حرمنا أنفسنا من فهمها والتصالح معها. تكشف تلك التعازي عن خؤولات وأرحام وعائلات متشابكة، وعلاقات اجتماعية تمددت في جذور النسيج الاجتماعي المتسامح، على امتداد الوطن، معلنة «وقتها» عن ذوبان حاجز القبيلة والعائلة والأسرة، بل وربما «السعودة» أيضاً. في المقابل «الحاضر» تكشف لك رقاع دعوات الزواج الحالية، عن تخلي المجتمع المفاجئ عن قيمة الاندماج، والانحياز بدلاً منها نحو الانغلاق والدوران حول مصاهرات ضيقة، وصلت ليس إلى ابن القبيلة ولا ابن الفخذ والعائلة، بل أصبحت تدور في طبقة القرابة الأولى والثانية فقط ولا تكاد تنفك منها. في إعلانات التعازي تلك، تجد على سبيل المثال فقط، أن الميت من الحجاز، وخؤولته من الجنوب، وأرحامه من نجد، وأزواج بناته من مناطق مختلفة. كان ذلك هو مزيجنا الاجتماعي في جيل الأجداد وربما في جيل الآباء، لقد أثبت جيل المؤسسين أنهم كانوا أكثر تحضراً وقبولاً لمتغيراتهم الاجتماعية منا الآن. بالطبع ما حصل من تغيرات في «التدافع الاجتماعي»، ليس حكراً فقط لدى «القبيلة والعائلة الكبيرة»، فكثير من العائلات التجارية الحضرية، ترى أن المصاهرة من خارج دوائرها المالية والأسرية، هو انتقاص لوضعها «الرفيع» وتسرب «لوجاهة المال» نحو فروع ضعيفة لا ينبغي لها أن تتقاطع معها. لقد غلبت على جيل كامل لغة الاستعلاء من كل الأطراف وكل «الجهويات»، هو في ما يبدو هروباً نحو «المعروف» وتترساً بالأكثر أماناً عند المصاهرة. ما حدث ترتب عليه مجموعة من أنماط التغير، كان أبرزها إغلاق نوافذ وأبواب الامتزاج الاجتماعي، والاكتفاء بدلاً منها بالتفوق الطبقي، بل وتكريسه باعتباره تكثيفاً للحق في التفوق، بعدما تدهورت الفرص المتكافئة، وتحول التقويم من ترتيب الكفاءة إلى الترتيب العرقي والمناطقي. ابحثوا حولكم ستجدون «صبياناً كانوا في الدكاكين» تزوجوا من بنات أعمامهم التجار الذين خدموا عندهم وفي بيوتهم، وتحولوا بعد المصاهرة إلى جزء من أسرهم، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. لاحظوا كيف أن القبيلة في ما «سبق» احتضنت «الأجنبي» الذي هرب إلى أحضانها لتزوجه ابنتها من دون أن تسأله إن كان جده الأربعون «وش يعود». [email protected]