لم يصدر أي تعليق رسمي سوري على تعيين الرئيس باراك اوباما السفير الأميركي الجديد في دمشق روبرت فورد متجاوزاً تجميد الكونغرس هذا القرار نحو سنة، أو على أداء فورد اليمين الديبلوماسية أمام وزيرة الخارجية هيلاري كلنتون تمهيداً لمجيئه الى العاصمة السورية قبل نهاية الشهر الجاري. اكتفت مواقع إلكترونية وصحف سورية بنقل الخبر عن وكالات الأنباء، الى ان بثت «وكالة الأنباء السورية» (سانا) خبر لقاء وزير الإعلام محسن بلال كلينتون في البرازيل على هامش تنصيب الرئيسة الجديدة ديلما سييف، ضمن لقاءات الوزير السوري مسؤولين آخرين. ونقلت «سانا» عن كلينتون أملها في ان يكون تعيين السفير «خطوة لتحسين العلاقات» بين البلدين. ينسجم هذا مع الموقف السوري المتخذ منذ قرار الرئيس الأميركي السابق جورج بوش سحب سفيرته مارغريت سكوبي في منتصف شباط (فبراير) 2005: ان وجود سفير أميركي في دمشق يهدف الى خدمة مصالح بلاده. فالحكومة السورية لم تقابل خطوة بوش، بإجراء مماثل حيث بقي السفير عماد مصطفى في واشنطن يدافع عن المصالح السورية. وهذا ما يفسر ان أياً من المسؤولين السوريين لم يطرح في شكل علني او في القاعات المغلقة مع المسؤولين الأميركيين في السنوات الخمس الماضية، موضوع إعادة السفير الأميركي. وعليه، لا يمكن النظر الى قرار اوباما تعيين فورد مع سفراء آخرين خلال عطلة الكونغرس نهاية العام الماضي، على انه تغيير جذري من قبل واشنطن تجاه دمشق، لكن يمكن تفسيره على ان خطوة تتضمن مدلولات سياسية أساسها رغبة اوباما في إعطاء دفع يومي ومأسسة للحوار الديبلوماسي السوري - الأميركي. صحيح ان تقرير بيكر - هاملتون نصح الإدارة الأميركية قبل سنوات ب «الانخراط المباشر» مع دمشق (وطهران) وأن اوباما بدأ مع سورية «الحوار المباشر على أساس المصالح المشتركة والاحترام المتبادل»، غير أن الحوار كان مرتبطاً في شكل دائم بتبادل الزيارات بين مسؤولين في البلدين. وما كان ينقصه وجود سفير أميركي في العاصمة السورية. ومجيء فورد يعني إعادة الأمور الى طبيعتها في العلاقات الديبلوماسية، في فترة إقليمية دقيقة تتعلق بعدد من الملفات ما يتطلب من السفير الجديد جهداً «ديبلوماسياً استثنائياً لمد جسور الثقة مع رجال السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع والتعويض عن الفجوة الديبلوماسية الناتجة من غياب التمثيل نحو خمس سنوات. لا شك في ان وجود السفير الأميركي في دمشق يعطيه فرصة لاكتشاف الأمور على حقيقتها وتلمس الواقع في شكل مغاير ل «الصورة النمطية» الموجودة في وسائل الإعلام الأميركية أو «الصورة السياسية» الموجودة في أروقة مؤسسات أميركية. سيكتشف، في صباح اليوم التالي من وصوله، ان سورية حققت الكثير من الإصلاحات الاقتصادية وهي في مرحلة جني مكاسب التحولات والاستعداد للمرحلة المقبلة. إذ إن فروع المصارف والجامعات والمدارس وشركات التأمين الخاصة موجودة في شوارع العاصمة السورية وباتت مؤسسة في شكل متين وتشارك في العملية الاقتصادية. بالتالي، فإن العقوبات الاقتصادية، التي فرضها بوش، أضرت بمصالح أميركا في سورية والمنطقة. إذ في الوقت الذي تأسست مجالس لرجال الأعمال بين سورية وعدد كبير من الدول لتطوير العلاقات الثنائية، باتت الشركات والاستثمارات الأميركية متأخرة في ركب العمل في سورية. ولدى التدقيق، سيرى أن التطور الاقتصادي السوري بات يستظل ب «رؤية إقليمية» على أساس تطوير العلاقات مع الجوار لربط البحور الخمسة (المتوسط، الأحمر، الأسود، قزوين والخليج العربي) في الإقليم الأوسع عبر مد خطوط الغاز والنفط والطاقة والنقل. وباتت العلاقات بين سورية وكل من لبنان والأردن وتركيا والعراق وإيران تتضمن بعداً إقليمياً تحت عنوان استراتيجي: مستقبل المنطقة يصاغ بأيدي أبنائها. وعندما يتحدث فورد الى السوريين، سيرى انهم يسافرون دورياً وبسهولة الى تركيا من دون تأشيرات وان العمل جارٍ بحيث يأتي السائح من تركيا الى سورية الى لبنان الى الأردن بأسهل الإجراءات، ضمن مساعٍ لتعاون رباعي استراتيجي ستنضم اليه دول أخرى. وسيكتشف ان بيروت لا تبعد سوى بضع عشرات الكيلومترات عن دمشق وان واشنطن أبعد بكثير عن بيروت. وأن الأمر الطبيعي، تاريخياً وجغرافياً واقتصادياً وأمنياً وسياسياً، ان تكون سورية حريصة على استقرار لبنان وأن الأمور تنعكس إيجاباً وسلباً عليها. لن يضطر فورد للإفادة من لغته العربية في الحديث مع رجال الأعمال السوريين الذي تخرجوا في كبريات الجامعات في العالم. سيسمع بلغة إنكليزية أو فرنسية: ان أميركا وأوروبا مهمتان في الاقتصاد العالمي، لكن العالم لا يقف عند حدودهما، وان عيونهما منتبهة الى أسواق صاعدة في آسيا والصين وأميركا الجنوبية والى أن العقوبات الاقتصادية التي فرضت على شركة الطيران السورية وقطع التبديل أو معدات الأدوية والغذاء، أضرت بشريحة من السوريين. لكن الأهم، انها أضرت بصورة أميركا ومصالحها، وان ما يحكى أخيراً عن تسهيلات قدمت الى شهادات الاستيراد لقطع التبديل والأدوية والاستثناءات تجد الكثير من الصعوبات العملية. هذا التفصيل، سيوضع شعبياً في سياق الصورة الأوسع لأميركا في المنطقة نتيجة إجراءاتها في العراق وانحيازها لإسرائيل. لا شك في ان فورد سيكون قبل وصوله قد سمع إيجازات سياسية في واشنطن عن العلاقة السورية - العراقية بعدما رأى الأمور من منظور إقامته في المنطقة الخضراء في بغداد بين 2003 و2006، لكنه عندما يأتي الى دمشق سيرى واقعاً مختلفاً يمكن ان يساعده على رؤية الأمور من منظور مختلف. ان معارضة السوريين الحربَ على العراق في عام 2003 جاءت من منطلق مبدئي يتعلق بمعارضة احتلال أي دولة عربية. وأيضاً من منطلق القناعة السورية بأن تلك الحرب لم تجلب الى المنطقة سوى المشاكل والدمار للعراقيين وساهمت في انتشار التطرف. كان هذا هو الموقف في 2002 وأثبتت الوقائع صحته بعد سنوات. سيرى ان الحرب دفعت بنحو مليون ونصف المليون عراقي الى سورية. كانوا في مرحلة من المراحل يشكلون نحو عشرة في المئة من السكان، بينما لم توطن بلاده والمجتمع الدولي سوى آلاف في أحسن الأحوال من العراقيين. ربما يسأل: ماذا يعني بالنسبة الى الأميركيين، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وأمنياً، لو انه خلال بضعة اشهر جاء ثلاثون مليون شخص من دولة مجاورة الى الأراضي الأميركية؟ يخطئ من يعمم ما تبثه وسائل الإعلام حول الاعتداءات الإرهابية التي يتعرض لها مسيحيون في العراق ومصر والتهديدات التي تعلن باسم تنظيمات متطرفة، على جميع دول المنطقة. عندما يأتي فورد يجد مجتمعا سورياً مغايراً ومختلفاً ل «الصورة النمطية» لهذا «الشرق». سيجد أن علمانية الدولة هي انعكاس لعلمانية المجتمع وأن دور مؤسسات الدولة هو تثبيت علمانية الناس. هذا ليس جديداً ولا طارئاً على المجتمع السوري. إنه إرث تعاقب الحضارات وموجود في «المدن المنسية» في شمال البلاد وشرقها والجامع الأموي في عاصمتها. سيجد صعوبة في معرفة دين الناس ومناطقهم. هذا الانسجام مترجم في أبنية دمشق. لا الأبنية الجديدة بل القديمة منها. وعندما يذهب فورد الى دمشق القديمة، داخل السور، ليتناول العشاء او التبضع في المحلات القديمة والمجددة، سيجد الكنائس ملاصقة للمساجد. لا شك في ان عمله ديبلوماسياً في البحرين والجزائر وتركيا ومصر وبغداد وتحدثه لغات عدة، سيوفران فرصة للتفاعل مع المشهد الثقافي السوري. في الفن والأدب والدراما والمزاوجة بين الحداثة والكلاسيكية في أنواع الأدب. ولا يجوز الاعتقاد بأحادية الثقافة السورية وعدم إدراك دورها الريادي في الثقافة العربية. لذلك ليس صدفة، وجود مراكز ثقافية ومدارس فرنسية ودنماركية وفنلندية وتركية وصينية وإسبانية وباكستانية. ولا بد أن يسأل عن أسباب عدم فاعلية المركز الثقافي الأميركي وإقبال الشبيبة عليه. على السفير الأميركي الجديد، ألا يفاجأ اذا تصادف وجوده في مناسبة ديبلوماسية جنباً الى جنب مع رئيس المكتب السياسي ل «حماس» خالد مشعل. وعليه، ان يعرف ان مشعل واحد من نحو نصف مليون فلسطيني لجأوا الى سورية بسبب الاحتلال. وجودهم في سورية مسؤولية إسرائيلية أولاً. يتكلم رجال الأعمال والمدنيون والسياسيون عن الاقتصاد والاستثمار والعولمة والتعاون الإقليمي. وستكون كلمة «الاحتلال» بداية لكل حديث. وكون الجولان أولوية وطنية بالنسبة الى السوريين، ليس كلاماً دعائياً وليس موقفاً حكومياً فقط، انه مطلب السوريين العاديين. انه بديهة وطنية... وبلغة السياسة هو ليس «شرطاً مسبقاً». لا بد من وجود عناصر «المشهد السوري» هذه في خلفية التفكير لأي ديبلوماسي يريد النجاح وخدمة دوره في تحسين العلاقات مع الدولة المضيفة. * صحافي سوري من أسرة «الحياة»