اللبناني المقيم في بروكسيل جون بوغوصيان، بجمهور بيينالي البندقية هذا العام، إلى أرض فنية عذراء، غنية بحوار الحضارات واللغات، بالتالي بحوار المواد الفنية التي استخدمها في معرضه الذي أتى تحت عنوان «شعلة لا تخمد» في جناح أرمينيا. باكورة اختبارات الفنان الآتي من خلفية صناعة المجوهرات، استخدم لابتكارها تقنيّات متعدّدة وموادّ طوّرها بواسطة النار واللهيب والدخان والصبغات والماء، فأتت منحوتاته وتجهيزاته الفريدة ولوحاته المبدعة مصنوعة من مواد محروقة مثل الأقمشة والأوراق والكتب والكراسي ولوحات قديمة وراءها أحياناً أنماط من الثقوب. أعمال أبهرت الباحثين والقيّمين الفنيين والنقاد الذين حضروا بعيون مندهشة لأسلوب مبتكر وغير معروف من قبل في تقنية النار في التشكيل الفني. أعمال يبحث فيها بوغوصيان عن آفاق واسعة ربما تكون الطموح أو السلام أو النجاح، ويتساءل من خلالها عن كيفية إحياء الحضارات القديمة التي تتعرض اليوم في سورية (حيث ولد في حلب) والعراق، للتدمير. لوحات ومنحوتات من الخشب والورق والكتب الكبيرة، تعرض بشكل جذاب يثير فيك أسئلة كثيرة حول تاريخ المنطقة التي يأتي منها بوغوصيان، وتتداخل فيها الصراعات وتكثر فيها المجازر، إلا أنها تحمل أملاً في كثير من جوانبها وتؤكد أن الحق لا يموت والتاريخ لا يرحم المجرمين وأن الإنسان حر. تعرض أعمال بوغوصيان المشاركة في البيينالي في قسمين، حتى 26 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، الأول في مدرسة مورات- رافاييل الأرمنية Collegio Armeno Moorat - Raphael والثاني في كنيسة الصليب المقدّس الأرمنيّة Chiesa di Santa Croce degli Armeni. يُعدّ بوغوصيان من الفنانين القلائل في العالم الذين يصنعون أعمالهم الفنية بواسطة النار والدخان. ويقول في لقاء مع «الحياة»: «اخترت النار لتكون لغتي الفنيّة الخاصّة، وأستخدم بالتالي مجموعة متنوّعة من الأدوات المرتبطة بالنار كالفراشي والمشاعل». أما الوحي في لوحاته، فيستقيه من فنانين أمثال جاكسون بولوك وسيمون هانتاي وجوان ميتشال وإيف كلاين. لكن من أين أتى العنوان «شعلة لا تخمد»؟ يجيب صاحب مؤسسة بوغوصيان للإبداع التي تتخذ من «فيلا أمبان» في بروكسيل مقراً لها: «شعلة الفن داخلي لا تنطفئ أبداً وهي في حال تطوّر وبحث دائم. كما أن العنوان يحمل تأويلات عدة، فأنا من منطقة (أرمني- لبناني) عانت من اشتعال النيران واضطهادات. والأرمن واجهوا إبادة جماعية لا مثيل لها في التاريخ، لكن الأرمن ومثلهم اللبنانيون لم يتوقّفوا عن حب الحياة وواجهوا المعتدي وانتصرت ثقافة الحياة على ثقافة الموت. إضافة إلى ذلك، أنا أستعمل النار أداة أساسية في أعمالي، وهذه النار في وجهها الثقافي والحضاري لا تنطفئ أيضاً». وعما إذا كان الفن يمكنه مواجهة الحرب والعنف والتراجيديا؟ يفيد بوغوصيان: «بالنسبة إلي الفن هو وسيلة من الوسائل التي تواجه هذا العالم المضطرب والمليء بالعنف اليوم. هو فرصة للحوار والتسامح، وهو يسمح لنا بالتفكير في شكل إيجابي ومختلف، ويعطينا الفرصة للتعبير عن الاختلافات والتغيرات. الفن هو الخيال. الفن يمكنه أن يساهم في وضع رؤية جديدة للعالم قد تؤثر في الرأي العام، للبحث عن قيم أخرى خارج المنطق وخارج الأفكار السائدة والتقليدية، وخارج الحواجز المبتذلة التي قد تكون نقصاً في التربية والتعليم. هذه الحواجز تكبر اليوم بسبب التطرف الديني والعصبيات وقرارات سياسية طائشة تحض على الصراعات، ولا ننسى طبعاً الأسباب الاقتصادية مثل الرغبة في السيطرة على موارد النفط. إذاً، الفن لن ينجح وحيداً في هذه المهمة الصعبة والشائكة، لكنه يساهم مساهمة فعالة في تسليط الضوء على القضايا». ترك بوغوصيان وراءه أمبراطورية في صناعة المجوهرات كان أسسها مع والده روبير وأخيه ألبير عام 1992. فأي جانب من جوانب عمله الفني لا يمكنه أن يتخلى عنه أبداً؟ يقول: «شغلي هدفه أولاً وأخيراً الفن، لقد تركت كل شيء وكل أعمالي في المجوهرات لأتفرغ لهذا الشغف الذي لا ينطفئ. الفن هو شغفي ولا يمكن المرء أن يتخلى عن شغفه، وأنا وفيّ لهذا الشغف، إذ أغذيه بالإصرار على ابتكار خطوط جديدة في فني وأصرّ على الابتكار. فالابتكار هو أي عنصر في الفن المعاصر، وفي هذا النوع 4 فنانين فقط حول العالم هم من يستخدم النار في أعمالهم، ولكنني أختلف عنهم بأسلوبي الخاص». ولكن كيف أتت به فكرة حرق الورق ومن ثم الكتب وبماذا يشعر عندما يحرقها؟ يحكي بوغوصيان وعيناه تبرقان من الوله في عمله: «منذ بدأت في سن الأربعين الدرس في أكاديمية للرسم في بروكسيل، كنت منفتحاً على التجريب إلى أقصى الحدود، مع أنني كنت متأثراً بالفن التقليدي السائد في القرنين الثامن والتاسع عشر مثل لاكروا، ثم صرت متحمساً للانطباعي مثل سيزان، ثم رحت نحو التكعيبي والسريالي ودخلت عالم بيكاسو وغيره كثر. وفي هذه الأوقات بدأت النحت بالخشب والصلصال، ورسمت اللوحات الزيتية والمائية واستخدمت الفحم والأكريليك...». ويضيف: «لكنني عندما أبحرت نحو الفن المعاصر والفن التجريدي، شعرت بحرية مطلقة، لم أكن أريد أن أسجن نفسي في لغة تشكيلية واحدة. اهتديت إلى شغف جديد بأعمال فنانين مثل جاكسون بولوك وسيمون هانتاي وجوان ميتشال... قبل أن أستقر مبدئياً عند العمل بالنار والدخان واكتشاف إيف كلاين وألبرتو بوري، والبحث عن خطوط وأماكن جديدة ومبتكرة». وتابع: «أما حرق المواد فبدأ كنوع من التجريب غير المحدود. أردت أن أعرف ما هو الشكل الذي يمكن الورق أن يتّخذه بعد الحرق. فاكتشفت عالماً من التغيرات والتقلبات والتحوّلات في حياة الورق عندما تهاجمه النار. إنه عالم من الاكتشافات التشكيلية التجريبية التي ساقتني إلى ولوج عالم حرق الكتب. فالكتب تجسّد المعرفة وحضارات الشعوب وتاريخ البلدان، وعندما كانت دولة تدمر حضارة ما ومحو ثقافتها وتاريخها كانت تحرق كتبها ومخطوطاتها. فأنا أرى الكتب اليوم تندثر في وقت تأكل التكنولوجيا كل ما هو ورقي. ففي طريقتي أردت أن أخلّد الكتاب من خلال حرقه ومن ثم جعلته منحوتة بحدّ ذاتها، أردت أن أنقذه من الهلاك والبربرية التي رأيناها في العراق على يد داعش والإرهاب الذي أحرق مكتبات تاريخية. إنه عمل محط جدل كبير اليوم، وأنا أردت أن أصوّر هذا الجدل في طريقة عملي عبر الدخان والنار ومواد أخرى».