انتقلت «شعلة» الثقافة من الدوحة الى مدينة سرت الليبية، التي اختيرت هذه السنة عاصمة للثقافة العربية. جابت هذه «الشعلة» حتى الآن أكثر من عشر عواصم ومكثت في كل منها عاماً كاملاً، لكن نورها نادراً ما أشعّ عربياً بحسب ما كان متوقعاً له. عاصمة أو عاصمتان ربما عرفتا كيف تستفيدان من هذه «الشعلة»، وأولاهما الجزائر، التي جعلت من هذه المناسبة فرصة لترسيخ معنى التبادل الثقافي العربي، فشرّعت أبوابها أمام «الثقافات» العربية، المختلفة حتى التناقض في أحيان، وراحت تختبر الفعل الثقافي نفسه، على اختلاف مصادره أو مشاربه. أما بيروت، على سبيل المثل، فكانت أشدّ هذه العواصم إخفاقاً، نظراً الى الظروف الشائكة التي كانت تجتازها عندما ألقيت على عاتقها هذه «المهمة»، وكانت وزارة الثقافة في أول عهدها حينذاك، وزارة بالاسم فقط، مثلما تكاد تكون الآن، وربما غداً، جراء الفقر الذي تعانيه. لكنّ الدوحة، التي اختتمت تظاهرتها مع انصرام العام 2010، لم تكن أفضل من بيروت، علماً انها كانت مهيّأة لأداء هذه «المهمة» الثقافية في صورة أشدّ شمولاً، تبعاً لحال الرخاء الذي تنعم به. وكان متوقعاً فعلاً أن «تجنّد» الدوحة إمكاناتها الكثيرة لإنجاح هذه التظاهرة السنوية والتفرد بها وتشكيل نموذج حقيقي لما يُسمى عاصمة ثقافية عربية، فالمال «الثقافي» متوافر، وآثاره بيّنة في «المهرجان» الدائم الذي تحياه الدوحة، عاماً تلو عام وشهراً تلو شهر، ويتجلّى في الإنجازات الهائلة التي تتوالى، فنياً وفولكلورياً ورياضياً وتكنولوجياً... وقد أصبحت عيون الكثر من أهل الفن والموسيقى والغناء ترنو الى الدوحة. لكنّ من يراجع «أرشيف» التظاهرة التي أحيتها الدوحة كعاصمة للثقافة العربية 2010، يلاحظ للفور ان برنامجها الذي كان حافلاً وصاخباً لم يؤتِ تلك الثمار التي كانت منتظرة. دعت الدوحة كل العواصم العربية الى المشاركة في هذا «الاحتفال»، وتركت لها حرية اختيار ما تشاء أن تقدّم في «الأسابيع» العربية. ولم يكن أمام وزارات الثقافة العربية إلا أن تلبّي وترسل ما ترتأيه أو ما يحسن لها أن تختاره، بل ما تطمئن اليه ولا يعكر صفو مزاجها «الرسمي». هكذا شهدت الدوحة «أسابيع» ثقافية متتالية حمل كل أسبوع اسم الدولة التي خُصّ بها، وكان على الجمهور القطري أن يتعرّف الى «ثقافات» الدول الشقيقة التي اقتصرت بمعظمها على الفولكلور والرقص والموسيقى والغناء، ناهيك بما توافر من أعمال مسرحية وفن تشكيلي وأدب، وهذه جميعاً حضرت بخفر ولم تجذب إلا جمهوراً قليلاً. ما زالت وزارات الثقافة بمعظمها في العالم العربي تعتقد أن من الممكن اختصار مفهوم الثقافة في الفنون الشعبية والفولكلورية التي تمثل ذاكرة بلدانها وتراثها، وعندما يطلب منها تمثيل بلدانها في مهرجانات عربية أو دولية تؤْثِر أن ترسل فرقاً فنية وموسيقية، تراثية غالباً، فالوزارات هذه تحافظ على مبادئ الثقافة الرسمية و «الأصيلة»، وتنبذ الثقافات الأخرى التي تختلف معها وتهمّشها. ويمكن هنا استثناء بضع وزارات قليلة يعنيها الشأن الثقافي الجاد ولكن بحسب ما تفهمه هي وليس في معناه الخاص والمنفرد والملتزم. استهلت مدينة سرت الليبية احتفالها ب «الحدث» الثقافي فولكلورياً أيضاً، وشعبياً وتراثياً، وطغى الطابع الرسمي و «العقائدي» على الحفلات والأمسيات الشعرية. وغلب على التظاهرة المفهوم «الجماهيري» الذي أنشأه الرئيس الليبي عمر القذافي من خلال الفرق شبه «الحزبية» التي شاركت وقد ضمّت أجيالاً متعدّدة. أما القصائد التي ألقيت، وبعضها بالعامية، فكانت أشبه بالتحية المرفوعة الى النظام الجماهيري ورائده، والى مدينة سرت ذات التاريخ العريق. وحتى الآن لم يوزّع برنامج العاصمة الثقافية الليبية عربياً كي يصبح ممكناً «تشكيل» فكرة عن التجربة التي تخوضها ليبيا للمرة الأولى. هل ستدعو الدولة المثقفين المنشقين الذين هاجروا إلى العودة الى بلادهم للمشاركة في هذا الحدث؟ هل ستسمح للمثقفين المهمّشين في الداخل، المعارضين والمحتجين، بالاشتراك في ندوة أو لقاء؟ هل ستفتح ليبيا أبوابها أمام المثقفين العرب الذين ترفض عادة دعوتهم الى الندوات واللقاءات التي تقيمها؟ وأدب المعمّر القذافي، الذي حظي حتى الآن بثلاثة مجلدات ضخمة تضم دراسات ومقالات كتبها حوله، مدحاً وإطراءً، نقاد وأدباء عرب معروفون، هل ستكون له حصة في هذا الاحتفال؟ لا أحد يعلم ان كانت احدى العواصم التي لم يتم اختيارها حتى الآن، ومنها القاهرة، ستتمكن من أن تكون نموذجاً حقيقياً للعاصمة الثقافية العربية. وهذا النموذج، وان لا يفترض به أن يكون كاملاً، تحتاجه فعلاً العواصم العربية مثلما تحتاجه «الثقافات» العربية، لا سيما الآن، في هذه الحقبة المظلمة التي يجتازها عالمنا العربي. ما أحوج هذا العالم الى «عاصمة» ثقافية حقيقية تسلّط الضوء على الأزمات التي تعانيها الثقافة العربية والتحديات التي تواجهها في الداخل كما في الخارج، ومنها على سبيل المثل: الموجة الظلامية التي تهدد عالمنا، والعنف الطائفي، و «التطهير» العرقي الذي يجري الكلام عنه، والفساد، والتهميش، والإقصاء، والإلغاء... لا يمكن أحداً من المثقفين، سواء كان مثقفاً طليعياً أم رسمياً، إنكار أهمية الفولكلور والتراث الشعبي وما يتفرّع عنهما من فنون وتقاليد، لكن الفولكلور لا يختصر وحده «الثقافة» والفعل الثقافي، فهو ليس إلا زاوية صغيرة من الثقافة التي لا يمكن حصرها في معايير أو مصطلحات ومفاهيم جاهزة ونهائية. الثقافة ليست فولكلوراً، ولا يمكنها أن تكون ضرباً من ضروب الفولكلور مهما جارت الشعب والذاكرة والوجدان العام. وهذا ما يجب على معظم وزارات الثقافة العربية فهمه، وإلا فإنها قد تصبح واحداً من المراجع التي تشكّل خطراً على الثقافة أولاً، ثم على الدولة التي تمثلها.