عام مضى وانتصف الآخر من دون أن تلوح في الأفق تباشير الوحدة التي يتمناها كل سوداني عاقل، لأننا في زمن الاتحاد الذي تبلور بين الكثير من الفرقاء، فكم من دولة اندمجت مع أخرى فصارت واحدة، وكم من أسواق شرسة المنافسة تحولت إلى مشتركة، وكم من عملات لدول توحدت، وكم من بنوك تضامنت فغدت واحدة، وكم من أندية تبلورت في واحدة، وكم من أيدٍ تكاتفت وأصبحت واحدة، وكم... وكم... بعد فرقة وشتات تقربت واتحدت، ونحن بهذا التراشق وعدم الثقة المستمر، قطعاً سيؤثر هذا على السلام والوحدة، وستجنح بسفينة السلام في محيط هائج متلاطم يصعب رسوها إلى بر الأمان، وربما يؤكد هذا التباعد أن خيار الانفصال بات أقرب من الوحدة. الوحدة يجب أن تكون عن قناعة... الوحدة تهم الجنوب والشمال بالقدر نفسه، ويجب التصويت عليها من السودانيين كافة وفوراً، وإن كانت ثغرات الاتفاق أزاحت جانباً مثل هذه الاقتراحات، لأن عامل الزمن ليس في مصلحة الجميع... الوحدة يجب أن تُبنى على أرضية صلبة لا تهزها الرياح العاتية، العالم كله يتقارب ونحن نزداد بُعداً وكأننا نعيش في كوكب آخر. وحتى نعرف «رأسنا من رجلينا» (ارسوا على بر)... ما بين القوسين أعلاه هما فقرتان أخيرتان من مقال كتبته في صحيفة «السوداني» السودانية قبل ثلاثة أعوام ونصف العام بعنوان»ارسوا على بر». أيام قليلة تبقت وتتوارى عن الأنظار، وتختفي من الأطالس، أجمل رسمة، وتحل الظلمة وتزيل عنا البسمة، أكاد لا أصدق بأننا لن نسمع كلمة «المليون» ميل مربع ثانيةً، لن نسمع أكبر دولة عربية وافريقية، لن نسمع القطر بحجم القارة وشبهها في الشكل، وهي بالطبع كارثة في التاريخ قبل الجغرافيا. طرفا نيفاشا، ولا أريد تسميتهما «شريكا الاتفاق»، لأن الاختلاف أقرب والشراكة دائماً تكون في الخير، والانفصال شر لا بد منه، هل كانا يعيان قبل خمسة أعوام بما يحدث الآن ولو بنسبة 1 في المئة؟! هل يحق لشخص أو شخصين أو ثلاثة أو عشرة، هل يحق لحزبين وحتى خمسة، مهما كان وزن الأشخاص والأحزاب، أن يقرروا مصير شعب ويغيروا خريطة بلد؟! ألم يكن بالإمكان أفضل مما كان، ومما نحن فيه من ورطة؟! أين دور المستشارين والمساعدين والوزراء والولاة ونوابهم الكثر؟ ما لم يستطع أحدهم أن يرفض هذا العبث؟! ماذا نقول للأجيال المقبلة عن السودان القديم؟ وكيف ومتى نعلمهم الرسم الجديد لوطن تليد؟! كان هناك أكثر من حل للانفصال، كان يمكن ألا يضم الاتفاق بين طياته هذه الكلمة الموحشة، كان يمكن أن يكون التصويت لشعب السودان كافة، لأن الشراكة تعني قبول كل طرف بالآخر، كيف تُسمى شراكة وقد يحدد مصيرك غيرك عنوة من دون رضاك؟! إن أي اتفاق لا يعمل على تفادي المسالب فهو اتفاق أعرج بل كسيح، والانفصال أكبر أخطر هذه السلبيات، التسويف لدى السودانيين عادة وليس سمة تميزنا عن الآخرين، منذ صغرنا مصاريف السيول والأمطار لم تصن إلا بعد البرق والرعد، الندوات والمحاضرات والأعمال الدرامية والتنوير لوحدة جاذبة لم تبدأ إلا قبل أشهر. إذا حدثت المعجزة وجاءت البشارة السارة بالوحدة فإن بترول الجنوب لكل السودان، وإلا فلتهنأ الجزيرة بقطنها «الذهب الأبيض»، والقضارف ب «سمسمها»، ونهر النيل ب «ذهبها»، والشمالية ب «كوادرها». كثيراً من نسمع من مسؤولين كبار وإعلاميين مخضرمين كلمة «استقلال» الجنوب، بدلاً من «انفصال»، وهذا خطأ فادح وكبير، لأن الجنوب لم يكن يوماً مستعمرة من الشمال وهم أخوة كرام، فإذا كان من السهل تقسيم الأرض فمن الصعوبة تقطيع الأوصال والأرحام، فكيف نفصل الابن عن والديه وإخوانه وأخواته وأجداده وأعمامه وأخواله وعماته وخالاته؟! صغيري العزيز عبدالعزيز رشقني بأسئلة صعبة ومحيرة «ليه يقسموا السودان؟ الخريطة كده حتبقى «شينة»، مين اللي عاوز يفصل السودان؟ ولو فيه واحد متزوج من الجنوب حيطلق زوجته؟ وحيسموا الجنوب إيه؟»، وقفت عاجزاً تماماً عن الرد المقنع، وسَكتُ عن الكلام المباح، وتذكرت حينئذ فقط هل «نيفاشا» حوت على أحقية الاسم، وهنا اقترح بأن تكون قسمة الحروف عادلة، كأن تُسمى دولة «سود»، والأخرى «دان»، واعتبار ال «د» حرفاً محايداً. مرت عقارب الساعة المسرعة، وانتهت الأعوام الخمسة، آمل وأدعو الله، وأتمنى من القلب، أن نظل أخوة متحابين في الحالتين، وألا يكون الأمر الغالب أن يلدغ بعضنا بعضاً حتى لا نكون أقارب كالعقارب! أخيراً «وقع الفأس في الرأس»، وأصبح السودان والحلم الجميل مجرد ذكرى وكابوس، «وماذا يضير الشاة بعد ذبحها»؟ فضاعت كل الفرص، وانتهت كل الأشواط الأصلية والإضافية بنتيجة سلبية، وستستمر الركلات الترجيحية طويلاً حتى ينقذنا أولادنا أو أحفادنا ويحرزون هدف الوحدة والعودة. محيي الدين حسن محيي الدين جمعية الصحافيين السودانيين بالرياض