يا فرحتي يا بهجتي... البارحة بعد الغياب، عمت الفرحة والبهجة أرجاء البلاد، الكل يعبِّر عن فرحته وبهجته بشفاء خادم الحرمين الشريفين، انهالت الاتصالات على البرامج الإذاعية وهي تعبِّر نثراً وشعراً عن الأفراح الغامرة والبهجة الكبيرة بتماثل ملك القلوب للشفاء بعد رحلة العلاج التي مرت أيامها بطيئة والكل يلهج بالدعاء إلى الله أن يكلل رحلة علاجه بالشفاء العاجل. هذا الحب الكبير الذي يعتمل في جنبات كل مواطن ليس له حدود، فالكل يعبر بطريقته الخاصة عن الحب الذي يعتمل في نفسه تجاه المليك المفدى، وهناك من قام بنحر الذبائح وإقامة الولائم تعبيراً عن الفرحة والبهجة بشفاء الملك عبدالله. كل هذا الحب يأتي عفوياً، لأنه «ملك القلوب» بحق، فخطابه البليغ عفوي، وحديثه إلى الجميع يأتي عفوياً بلا أي تكلف، وتناوله لأمور العباد والبلاد صادر من قلبه بصورة صادقة وعفوية وفق ما تقتضيه الأمور، فكانت زيارته للفقراء في عقر دارهم وبيوتهم، وتناوله للأطعمة الشعبية في المراكز التجارية، وابتسامته الحانية التي لا تفارقه أينما حل، فاحتل بذلك عرش القلوب. أما معالجته الحكيمة للأمور السياسية الخارجية منها والداخلية، فهي الحكمة بعينها، فكان حوار الأديان، والحوار الوطني، واجتثاث الفساد بأنواعه، والارتقاء بالقضاء بصورة شاملة، والنهضة بالتعليم، وبرنامج البعثات الكبير، والقضاء على البطالة، والارتقاء بالأداء الإداري، وجامعة الملك عبدالله (كاوست)، والمدن الاقتصادية، ونظام «ساهر» للقضاء على أسباب الحوادث، وتوسعة المصحات والمستشفيات للقضاء على التكدس والمواعيد الطويلة، ومنح إناث الأمة كامل المساحة المتاحة لهن في هذا الكيان الكبير، ومنع أي هضم لحقوقهن المكفولة شرعاً وقانوناً، لأننا جزء من هذا العالم الكبير الذي نرتبط به باتفاقات ومعاهدات دولية. إنه ملك الآمال العظيمة، الذي صاغ الأمل لكل فرد من أفراد الأمة، فالأمل «صياغة» والأمل «صناعة ثقيلة»، الملك عبدالله زرع الأمل، فتح لنا أبوابه واسعة فسيحة، وعلى الأمة استثمار هذه الآمال العريضة، كلٌ في مجال تخصصه، ولا مكان هنا للمتكاسل والمتردد، ولكن الفرصة للجميع للإقدام والتقدم والمشاركة في عملية البناء، فالبناء مفهومه شامل وواسع وكبير، البناء المادي «الذي يتطلب استخدام اليدين والرجلين والعضلات» وما يتطلبه من مجهود، جنباً إلى جنب مع البناء المعنوي (المراحل الدراسية العامة والجامعية) والتأليف، وإصدار الدواوين، أو الروايات، أو مختلف أنواع الإصدارات من الكتب والمؤلفات، فالنبي نوح «عليه السلام» علَّمنا النجارة، وإدريس «عليه السلام» الخياطة، وسليمان «عليه السلام» علَّمنا كل ما يتعلق باستخدامات الحديد والزجاج، فالصناعات كلها من الأمور التي أمرنا الله سبحانه وتعالى إمتهانها، والقيام بها (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس)، فإذا كنا نحب مليكنا فعلاً، فعلى الجميع النزول إلى ميادين العمل، والتنحي والترجُّل من الأبراج العاجية الواهمة من أنواع الشعر والتغني بأمجاد الماضي، أو تسلسل شجرة العائلة (التى نسميها القبيلة)، فكل إنسان له شجرة عائلة يفتخر بها، (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، فلا مجال لانشغال الإنسان بالتغني بشجرة عائلته والابتعاد عن ميادين الأعمال العضلية (اليدوية) التي تركناها للوافدين، فأينما إلتفتَّ تجد الوافدين هم المسيطرون على كل الأنشطة التي تتطلب مجهوداً بدنياً وعضلياً «يدوياً»، فكل الحرف والمهن والأشغال، والأعمال المطلوبة للتشييد وإقامة المنشآت، وكل أعمال البنية التحتية والفوقية، وأعمال الصيانة، والرصف والسفلتة والحفريات والتمديدات كافة، وتشغيل كل الآليات «على رغم سهولتها ومداخيلها المالية العالية» تخلينا عنها كلها للوافدين! هل هذا الموقف الغريب يتفق مع الحب الطاغي لملك القلوب؟ علينا أن نشمر عن سواعدنا، ونقتحم ميادين العمل، كما فعل عشرة شبان سعوديين أبهروا عدداً من المسؤولين يتقدمهم محافظ المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني الدكتور على الغفيص، وذلك بالمنزل الذي أنشأوه ونفذوه بأيديهم، فقد بدأوا التنفيذ منذ العاشر من شوال الماضي، ونفذوا جميع الأعمال فيه من نجارة وحدادة، وبناء (البلك والطوب) وسباكة وكهرباء ودهان وتبليط، وكل ما يتطلبه البناء وفق مناهج تعليمية تلقوها في معهد العمارة والتشييد. وعلى جميع الخريجين من معاهد التدريب المهني عبر العقود الماضية، استعادة خبراتهم والمشاركة الفعالة في عملية البناء، وعندما نجول بأعيننا ونحن نغدو ونروح من أمام الجسور التي تُبنى داخل المدن وخارجها «وغيرها من المشاريع» هل نراهم مشاركين في البناء؟ لماذا لا؟ لماذا الشركات لا تقوم بدمجهم في العمل، ولو بصفة مشرفين دائمين؟ لأن الإشراف المباشر أكثر من ضروري لضمان إتقان العمل وجودة التنفيذ ومراقبة مدى تقيد العاملين بجدية العمل وعدم التباطؤ والتلكؤ وإضاعة الوقت، فيتسببون في تأخر المشاريع، وغير ذلك من عيوب التنفيذ. الحب يجب أن يُترجم إلى أفعال، فكما نحب الانخراط في الجيش وكل القطاعات العسكرية والأمنية والحرس والحدود وخفر السواحل وغيرها، لابد أن ننخرط في الأعمال العملية التي تعتمد على السواعد القوية، لأن كل تلك الأعمال عنصر مكمل لخدمات القطاعات العسكرية والأمنية وغيرها، يجب أن نبني ثكناتنا، ونقوم بصيانتها بأنفسنا، وكذلك صيانة الآليات العسكرية والمدنية، بل كل الأنشطة المرتبطة بالبيئة والحياة اليومية، حتى يأتي البناء والتنفيذ صحيحاً، ولا ينبغي تركها كلها للوافدين، لابد أن نترجم حبنا للوالد الغالي إلى أفعال، ثم بعد التنفيذ نتفرغ (وقت الفراغ) للشعر الشعبي (النبطي) أو الفصيح أو غيرهما من الأنشطة الأدبية. أما ثقافة العيب، فقد ولَّت إلى غير رجعة، ولكنها بقيت معشعشة في عقول البعض فقط، وأما ثقافة أغطية الرأس، فكل شعوب الأرض لها أغطية رؤوسها التي تفتخر باعتمارها، ولكن وقت التشمير عن السواعد، يتخففون منها، ويعتمرون خوذات العمل أو الكابات أو البريهات (كما هو زي القطاعات العسكرية والأمنية مثلاً)، أو لباس العمل بالنسبة لكل فئات العمل، التي يطلق عليها «الياقات الزرقاء»، فالرسول «صلى الله عليه وسلم» أمر بالعمل «خذ فأساً فاحتطب» الحديث، و«من قامت عليه القيامة وفي يده فسيلة فليغرسها» الحديث، وذلك لأهمية العمل بأشكاله، وكذلك الزراعة، أما العمالة الوافدة فلا نُشَغلَهم إلا في أضيق الحدود وللضرورة القصوى. ياسين البهيش - جدة [email protected]