المحك الرئيسي الذي يتبادر إلى ذهني عند طرح «ظاهرة» أعلى المبيعات في العالم العربي للنقاش، هو وجوب عدم الأخذ بالمفهوم الغربي حول «البست سلرز». الأجدر أن نتناول ظاهرة «أعلى المبيعات» في العالم العربي: إن الأخذ بأي مفهوم أو مصطلح أو نظرية أو أيديولوجيا كما نشأت في الغرب والتعامل معها بحذافيرها، لهُوَ من المواضيع المثيرة للجدل الذي لم يحسم حتى يومنا. لكن ما يدعونا للتحفظ تجاه نقل المصطلحات والمفاهيم كما هي ليس ذاك الجدل، بل الوعي الكامل أن ارتحال أي مفهوم من منشئه الأصلي الى مكان آخر لا بد من أن يغير المفهوم ذاته، فالمفاهيم تتكيف طبقاً للبيئة الجديدة التي ارتحلت إليها، فظاهرة أعلى المبيعات في الغرب لها محددات واضحة، وعليه تحصل كل دار نشر كبيرة وراسخة على النفوذ الذي يمكِّنها من وصف بعض الأعمال بأنها «بست سلر». هذه المحددات الواضحة التي تتناغم بين دار النشر وبين أهم الصفحات والملاحق الثقافية غائبة تماماً عن العالم العربي، وعليه لا بد من النظر إلى الظاهرة في بيئتها الحالية، وهو ما لا يغير جوهرها: أعلى المبيعات. أما إن كانت هذه الأعمال تبقى أم تتلاشى مع الزمن ليحل محلها عمل أكثر مبيعاً، فهي فكرة تحيل على مفهوم الإنتاج الأدبي كافة في اللحظة الراهنة. يبدو من الصعوبة إذاً أن يدفعنا غياب المؤشرات النمطية لمسألة البست سلرز الغربية إلى الخروج باستنتاج حاسم عن غيابها في العالم العربي. لا يمكن قياس إشكالية ثقافية في العالم العربي على معايير نظيرتها في الغرب، وإلا كأننا نعيد إنتاج مسألة هيمنة المركز الذي يحاول الهامش الوصول له. ولا أعني مطلقاً وجوب الانعزال والانغلاق والإغراق في المحلية، لكنني أضع دائماً نصب عيني مسألة ارتحال المفاهيم التي ذكرتها والتي استفاض في شرحها الراحل إدوارد سعيد، وأكد على أهمية تحليل أيديولوجيا المجتمع الذي ارتحلت له هذه الظاهرة. أقول ذلك بالرغم من أنني لا أرى أن هناك ظاهرة في المسألة برمتها! لا يخفى على أي منا هبوط مؤشرات القراءة من زمن طويل، وذلك لأسباب كثيرة ومتشابكة ومعقدة، منها ارتفاع سعر الكتب، الانغماس في النضال السياسي، مما يزيح الثقافي جانباً، انخفاض مستوى التعليم، الاستسلام لأعباء الحياة، عدم الوعي بأهمية الأدب والعلوم الإنسانية بشكل عام، ناهيك عن عصر «الجماهير الغفيرة (بتعبير د. جلال أمين) الذي يجعلك تلهث إن قررت متابعة الإنتاج الأدبي... إلى آخره من الأسباب، التي تؤدي بالتراكم إلى جعل الكتاب غير مرغوب به في أسوأ الأحوال، أو آخر هم المواطن العربي في أحسنها. ولكل هذه الأسباب، عندما تحقق رواية مبيعات ضخمة ويصدر منها عدة طبعات في مدة وجيزة ويتناقل القراء أخبارها وتهرع دور النشر الأجنبية إلى ترجمتها، يمكننا أن نتساءل عن ظاهرة «أعلى المبيعات»، فهذا التساؤل في حد ذاته - وهو تساؤل مشروع تماماً - وإنْ كان نابعا من أرضية جادة تهدف إلى الفهم وليس مجرد احتجاج طفولي (لماذا لم تنتشر روايتي كرواية فلان أو فلانة..؟)، يؤدي إلى فهم سوق الكتاب في العالم العربي، وإلى فهم ذهن المتلقي والاطلاع على توقعاته. والحقيقة أن مد الخط على استقامته قد يحول ذلك التساؤل المشروع إلى وسيلة جديدة لفهم ذهنية المجتمع الآن في ظل الكوارث والأحداث المتلاحقة التي نعيشها. الأسئلة التي يطرحها وضع القارئ والقراءة في العالم العربي هي: هل يكتسب الكتاب الذي يصدر في أكثر من طبعة ويحقق أعلى المبيعات قيمته (بما في ذلك الفنية) من الربح والرواج الاقتصادي، أم أن العكس هو ما يحدث؟ هل معنى ذلك أن هذه الكتب تلبي احتياجات المتلقي في حقبة بعينها فيتحول الكتاب إلى بست سلر؟ لا بد من الإقرار بجدلية العلاقة بين المتلقي والسوق، بالإضافة إلى التكامل واحتياج كل منهما للآخر، فلا سوق من دون متلقٍّ، ولا يمكن الحديث عن المتلقي دون أن يكون متواجداً كطرف رئيسي في هذه العلاقة. غاية المسألة هي فهم توقعات هذا المتلقي من الكتابة، في هذه اللحظة، في هذا المشهد السياسي الثقافي، الذي لا يختلف كثيراً عن أفلام الخيال العلمي التي تقدم صورة مبهرة. يعتمد نظام «أعلى المبيعات» في العالم العربي على العديد من العوامل (التي تتضمن موهبة الكاتب)، منها صنع النجومية، وهى نظام محكم يعتمد على توظيف كافة العوامل التي تدفع التكتلات الثقافية إلى التحول مؤسساتٍ على سبيل المثال. يركز نظام النجومية على عدد محدود من الكتّاب ويسلط الضوء عليهم، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى إهمال التنوع، فيستمد المشهد المحلي جزءاً من قوته، اعتماداً على التوحد وعلى التعامل مع الصورة. من هنا تتمكن المؤسسة الثقافية الاقتصادية من تحويل معنى القيمة الفنية وتغييرها، إذ إنها تصور القيمة الفنية في ذروتها بوصفها ما يقدمه النجوم، وهو ما يفسر إعادة طرح مسألة القيمة الفنية مؤخراً في الأدبيات النقدية. أما العامل الآخر الذي يساهم في تحقيق «أعلى المبيعات»، فهو الإعلام الذي تحدث عنه بورديو كثيراً، واعتبره مسؤولاً عن تشكيل صورة تقدم العمل بوصفه مستحقّاً للنجومية. وكلنا نعرف الموجة الإعلامية الدعائية الترويجية التي اجتاحت العالم العربي مؤخراً في ما يتعلق بالترويج الإعلامي لأعمال إما منتقاة بعينها أو هي مجرد أعمال وصلت إلى وسائل الإعلام بشكل عشوائي، لكن لا يمكن الإنكار أن العلاقات الشخصية، سواء المرتكزة على مصالح (ليست بالضرورة غير مشروعة) أو المنزهة عن ذلك، تلعب الدور الرئيسي في الترويج الإعلامي. بالتوازي مع هذا الترويج في مقالات صحفية تلخص «حدوتة» العمل أو تنقل كلمة الغلاف الأخير هناك عامل ثالث يدفع بقوة لتحقيق «أعلى المبيعات»، وهو احتلال المكان أو الفضاء إذا أردنا الدقة، فالندوات التي تقام لعمل ما وحفلات التوقيع تعني أن العمل قد تواجد في الفضاء الثقافي وله مساحة خاصة به، ثم تأتي الترجمة لتعلي من شأن العمل وكأنها تعلن نقله إلى فضاء ثقافي مغاير، فيتحقق المزيد من الرواج الاقتصادي للعمل. في هذا السياق لا بد من التذكير أن الأعمال التي تصدر في الغرب لا تضع الترجمة إلى اللغة العربية هدفاً نصب عينيها، بهذه الملاحظة أردت أن أذكر بالأساس الذي يتوجب اتباعه في قراءة ظاهرة ارتحلت لمكان آخر. فأي ظاهرة، وخاصة إن كانت متعلقة بالمجال الثقافي، تنهل من المحلي وتتغير طبقاً لشروطه.