حتى وإن كان من الممكن أن يؤخذ على العام المنتهي، اليوم 2010، خلوّه في شكل عام من الأفلام الكبيرة المرشحة لأن تدخل تاريخ الفن السابع من الباب العريض، وحتى وإن كانت مهرجانات العام السينمائية الرئيسة، من «كان» الى «برلين» و «البندقية» قد اشتكت من أن ضعف ما عرض فيها من أفلام إنما يعود الى مشكلة في المنتوج نفسه أكثر مما هو سوء في الاختيار. وبالتالي، حتى وإن كان غلاة أهل المهنة والمراقبين والنقاد قد وقفوا عند نهاية العام حائرين يفكرون بمستقبل هذا الفن، كإبداع وليس فقط كإنتاج، على ضوء ما حدث، أو ما لم يحدث هذا العام، فإن ثمة عدداً لا بأس به، نسبياً، من أفلام عرفت كيف تنفد بجلدها من الجدب العام ومن وضع باتت فيه الهوة العددية - على الأقل - واسعة بين كمّ الأفلام المنتجة ونوعيتها. واللافت أن معظم استفتاءات الرأي التي أجريت، إنما توقفت عند هذه الأفلام بعينها في معظم الأحوال، مع ملاحظة أساسية وهي أنه كان ثمة من بين هذه الأفلام كثرة فرزت النقاد حقاً، بين قوم رأوا فيها تحفاً وآخرين رأوها لا تستحق أن تشاهد. ولعل المثلين الأكثر سطوعاً على هذا فيلم «العم بونمي...» التايلاندي، وفيلم وودي آلن الأخير «سوف تلتقين رجلاً طويلاً أسمر». وبالنسبة إلينا هنا، كي نلعب اللعبة أسوة بغيرها، سنتوقف عند العشرة أفلام التي رأيناها تستحق تمييزاً لهذا العام، وربما ليس دائماً لأسباب فنية، علماً بأن لائحتنا تخلو، للمرة الأولى منذ سنوات، من أي فيلم عربي وهو ما يشعرنا بقدر كبير من الأسف والأسى. في المقام الأول كان هناك فيلم «عام آخر» لمايك لي، المبدع الإنكليزي، الذي حتى وإن كان قد سبق له أن قدم، لأهل المهرجانات («كان» بخاصة) ولجمهور خاص بعض الشيء أفلاماً كبيرة في السابق (مثل «عار» و «أسرار وأكاذيب»)، فإنه تجاوز نفسه هذه المرة في فيلم عائلي حميم، يكاد لا يروي شيئاً سوى حكاية أربعة فصول من حياة عائلة وبعض أصدقائها. «عام آخر» فيلم إنساني بامتياز وعمل قوي من النوع الذي يتقن الإنكليز إبداعه. ومع هذا، على رغم أن الفيلم اعتبر منذ عرضه في دورة «كان» الأخيرة، تحفة استثنائية، عميت عنه عيون المحكمين في حفل الختام ولم يخصّوه بأية جائزة أو ذكر، ما اعتبر عاراً على اللجنة التي استحقت أن تشتم وتعتبر غير مناسبة للحكم على أي فيلم من الأفلام. في المقابل، أثنى كثر على اللجنة نفسها إذ أعطت ثاني أكبر جائزة الى الفيلم الفرنسي «عن الآلهة والبشر» لكزافييه بوفوا... في هذا الفيلم لم يكن الموضوع هو المغري (يتحدث عن اغتيال سبعة رهبان فرنسيين في الجزائر أواخر القرن الفائت)، بل الطريقة التي رسم بها المخرج أحداث الفيلم، أي صورة الأيام الأخيرة التي عاشها الرهبان في ديرهم المنعزل في الأرياف الجزائرية مختلطين في ألفة مدهشة مع السكان المحليين، وكذلك الالتباس الذي أنهى به المخرج فيلمه من دون أن يوضح تماماً أي طرف اغتال الرهبان حقاً: السلطة أو الإسلاميون المتشددون. فيلم كبير وهادئ «عن الآلهة والبشر» استحق نجاحاته النقدية، كما مئات ألوف المتفرجين الذين تدفقوا لمشاهدته معيدين الاعتبار الى سينما فرنسية كانت تكاد تلفظ أنفاسها خلال السنوات الأخيرة. الكبير جان - لوك غودار، أعاد بدوره الاعتبار الى السينما الفرنسية، حتى وإن كان فيلمه الجديد «فيلم - اشتراكية» مثله سويسرياً. هذا الفيلم عرض بدوره في دورة «كان» الأخيرة، لكنه لم يكن مرشحاً لأية جائزة. ومن هنا كان منسياً في حفل الختام تماماً. ولكن بعد ذلك، وإذ بدأت تنسى معظم الأفلام المهرجانية، ها هو «فيلم - اشتراكية» ملء السمع والبصر، الى درجة أن أهل الأوسكار أمضوا أسابيع طويلة خلال الصيف المنصرم باحثين عن عنوان غودار في قرية سويسرية صغيرة كي يبلغوه أنهم قرروا تكريمه وتكريم فيلمه وتاريخه السينمائي المجيد، خلال حفلة الأوسكار المقبلة. في المقابل لم يفكر أي من المهرجانات العربية المتكاثرة كالفطر بأي تكريم لغودار مع أن الجزء المتعلق بفلسطين في هذا الفيلم يعتبر واحدة من أقوى المرافعات دفاعاً عن قضيتها. ومع أن هذا الجانب الفلسطيني ليس جديداً على غودار صاحب «موسيقانا» و «الجندي الصغير». فلسطين ولكن، من جانب مقابل تحضر في الفيلم/ الظاهرة، للعام 2010: «كارلوس» للفرنسي من أصل مصري أوليفييه السايس. فيلم لأنه واحد من أبرز ما حققه سينمائي في العام المنتهي، وظاهرة لأنه شكل ذروة النقاش حول الفيلم السينمائي والفيلم التلفزيوني. «كارلوس» كما بتنا نعرف الآن فيلم عرض في أكثر من 5 ساعات تلفزيونية. وفي أقل من 3 ساعات سينمائية، جامعاً الوسيطين معاً، ليقدم حكاية الإرهابي الأشهر، القابع الآن في السجون الفرنسية والذي أمضى حياته «يناضل» - على طريقته، طبعاً، من أجل فلسطين. مهما يكن، على عكس ما كان يمكن توقعه، أتى «كارلوس» عملاً فنياً مبدعاً، لا يبتعد تاريخياً أو سياسياً عن قدر ما من الأمانة، لكنه يدنو فنياً من الأعمال السينمائية الملحمية الكبيرة، وإذا كان لنا أن ننصح هنا من سيشاهد الفيلم على الأسطوانات المدمجة وسيحيّره الاختيار بين النسخة التلفزيونية الطويلة والنسخة السينمائية الأقل طولاً، فإننا سننصح بالنسخة الطويلة، مع ضمانه أنه لن تكون هناك لحظة ملل. ... إذا كانت كل الأفلام التي ذكرناها حتى الآن تنتمي الى الواقع السياسي والتاريخي الاجتماعي في شكل أو آخر، فإن الفيلم التالي على لائحتنا وهو «الشبكة الاجتماعية» ينتمي الى جزء لم يكن متوقعاً من الواقع: الواقع الإلكتروني... ذلك أنه، في إخراج مميز من صاحب «سبعة» و «زودياك» دافيد فينشر، يتابع المغامرة الحياتية والاقتصادية والمعلوماتية المدهشة للفتى العشريني الذي «اخترع» موقع «فيسبوك»، فغيّر به وجه العالم ووجه العلاقات الاجتماعية بشكل لا عودة عنه، معيداً الى الفرد اجتماعيته، وإن في شكل افتراضي، بعدما بشر «أنبياء» كثر بزوال العلاقات الاجتماعية لمصلحة فردية معلنة. المجتمع... ولكن من ناحية مقلوبة تماماً... وتكاد تنتمي الى بؤسوية كانت سائدة أيام «الواقعية الجديدة» الإيطالية، هو محور فيلم «بيوتيفل» للمكسيكي الأصل، الإسباني - الأوروبي الهوى أليخاندرو اينياريتو، الذي كان قدم أكثر من عمل رائع خلال السنوات الأخيرة بدءاً ب «غراميات كلية» وصولاً الى «بابل». هذه المرة اتبع اينياريتو، إذ صوّر فيلمه الجديد في برشلونة أسلوباً كلاسيكياً ليصور حياة فرد ضائع بين حياة عائلية مضطربة ومهنية خطرة، وسرطان سيميته بعد وقت قليل. لقد أتى هذا الفيلم كبيراً مؤثراً... وربما بفضل أداء بطله، أكثر مما بفضل لغته السينمائية وموضوعه المدرّ للعواطف والدموع. فبطل الفيلم الإسباني خافيير بارديم، قدم هنا أداء جعله يستأهل جائزة مهرجان «كان» ويصنف بين كبار الكبار بين ممثلي السينما في الأزمنة الحديثة. فيلم «آغورا» للإسباني أليخاندرو أمينابار، كان من المفترض أن يصنف بين أفلام العام السابق 2009، غير أنه بعدما عرض في دورة «كان» لذلك العام، تأخرت عروضه العالمية حتى العام التالي. ولعل هذا كان من حسن حظه، ففي العام 2009، ما كان في إمكانه أن يبرز بين العشرة الأول، لأن العام ذاك كان عام إنتاج سينمائي كبير. وبالتالي برز «آغورا» في العام 2010، أولاً بفضل موضوعه: التسامح والتطرف الديني (حمداً لله لم يكن الحديث عن التطرف الإسلامي هذه المرة!)، ثم بفضل أسلوبه السينمائي الرائع: فيلم من النوع الذي ينتمي الى الملاحم الرومانية والإغريقية، على موضوع شديد الراهنية وبأداء ولغة سينمائية شديدي الحداثة. يتحدث الفيلم عن مقتل فيلسوفة مكتبة الإسكندرية هيباتيا، أيام الانتشار الأول للمسيحية في مصر وقمعها حين انتصرت لحرية الفكر. ليس قمع حرية الفكر، كما يمكننا أن نعرف، هو الذي دفع المخرج الإيراني عباس كياروستامي الى تحقيق آخر أفلامه - حتى الآن -، بين إيطاليا وفرنسا، ومع ممثلين أوروبيين، خارج إطار سينماه الملتصقة تماماً ببيئته الإيرانية، بل ربما هي الرغبة في التغيير، أو إغراء أوروبي ما. المهم أن النتيجة كانت فيلم «نسخة طبق الأصل» الذي أحبه كثر، فيما كرهه البعض (ومن بين هذا البعض، طبعاً، السلطات الرقابية الإيرانية، التي تصاعدت كراهيتها له حين كتب مخرجه رسالة انتقد فيها قمع السينمائيين من قبل نظام أحمدي نجاد في إيران). الفيلم حميم ومبهم، لكنه فاتن، يذكر بنوع من السينما لم يعد كثر من المخرجين يحفلون به، وهو يتحدث عن لقاء بين رجل وامرأة في قرية إيطالية، من دون أن ندري ما إذا كانا شخصين التقيا لتوهما ويتعارفان ليعيشا افتراضياً حياة زوجين، أو زوجين التقيا بعد غياب أحبا أن يمثلا على بعضهما بعضاً دوري الغريبين. لائحة مثل هذه التي نوردها هنا، ما كان يمكنها أن تبدو مكتملة إن هي خلت من فيلم لواحد من آخر الكبار العاملين في الفن السابع الأميركي، مارتن سكورسيزي. وهو وفّر علينا عناء البحث، طبعاً، بفيلمه الأخير - قبل غوصه في العمل التلفزيوني كما يبدو - «شاتر آيلند» المأخوذ عن رواية رائعة لكاتب بوسطن الكبير دينيس لاهان. فيلم مبهم، بوليسي، نفسي، مشوق، قاس، اشتغله سكورسيزي، كعادته كما يشتغل الجوهرجي على قطعة ثمينة، فأتى فيلماً كبيراً... لكنه أتى في الوقت نفسه واحداً من تلك الأفلام التي قد تدخل تاريخ السينما... ولكن في بطء شديد. «شاتر آيلند» رحلة في داخل مفتش أكثر مما هو رحلة من حول جريمة تقع في مصح عزل في جزيرة قاسية مرعبة. وهنا، طالما أننا ذكرنا سكورسيزي، لا بد من أن نذكر فرانسيس فورد كوبولا، الذي لفرطإحساسه بفشل انتاجاته الأخيرة، ولفرط انشغاله بالإنتاج وبالنبيذ، كاد يصبح نسياً منسياً، خلال العقد الأخير. فكوبولا هذا، حقق في العام 2009 فيلماً صغيراً/ كبيراً، لم يقيض له أن يعرض إلا في العام 2010 في معظم البلدان، وكان هذا من حظه أسوة بما حدث مع «آغورا» المذكور أعلاه، كما من حظ هذه اللائحة. فلولاه كان على لائحتنا أن تتوقف مع الفيلم التاسع. أما عرضه في هذا العام فإنه أهّله لدخول لائحة العشرة الأفضل. وهو، على أية حال، فيلم لكل الأزمنة تبرز قيمته في شكل تدريجي. وهو، في شكل أو آخر، عودة من صاحب «العراب» و «يوم الحشر الآن» الى ذاته وأسرته، ولو في شكل رمزي، من خلال حكاية أخ مراهق يكتشف أخاه الأكبر، بعدما بارح هذا الأخير الحياة العائلية، في الأرجنتين، فيحاول استعادة العلاقة معه. الفيلم هو، طبعاً، «تيترو»، الذي بدأ كثر يعتبرونه واحداً من أجمل ما حقق كوبولا في تاريخه، وفيلمه الأكثر... أوروبية.