لا يستطيع أي متابع للمعترك الأدبي في العالم العربي اليوم، تجاهل ما للجوائز الأدبية في الآونة الأخيرة من حضور وطغيان على مناحي الحياة الثقافية، لما تثيره من نقاش وسجال، وأيضاً استفهامات وشكوك لا تنقطع. الجوائز التي كانت قبل بضع سنوات يمكن عدها على أصابع اليد الواحدة، أضحت من الكثرة بحيث يصعب حصرها.تكاثر الجوائز على هذا النحو، أثر بالتأكيد، في المشهد الأدبي، بعيداً من مسألة السلب والإيجاب، إذ تحولت إلى مكون أساسي في هذا المشهد، خصوصاً حين يحوزها اسم كبير، فهي مثلما تكبر وتكتسب أهميتها من الشفافية والصدقية التي تشدد عليها، تكبر أيضاً من خلال الأسماء المهمة التي تفوز بها. على أن الجوائز التي تثير اليوم جدلاً واسعاً لناحية معاييرها وقيمتها المادية العالية، ليست تلك التي تتبناها المؤسسات الثقافية الرسمية في كل بلد عربي، والتي لها أيضاً آلية خاصة يصعب اختراقها، إنما تلك التي تقف خلفها بعض دول الخليج، وتحديداً الإمارات، مثل جائزة العويس والشيخ زايد وبوكر للرواية العربية، وأضيفت اليها جائزة القذافي. جوائز أسسها رجال أعمال، أو أُنشئت لتخليد ذكرى رئيس أو شيخ أو مهتم بالأدب والثقافة. غيّرت الكثير من الجوائز، خصوصاً ذات القيمة المادية الكبيرة، حياة الفائزين بها، ومنحتهم الاطمئنان، على الأقل لسنوات عدة، ووفرت لهم أجواء آمنة لمواصلة الكتابة، بعيداً من شبح العوز والحاجة، الأمر الذي يفترض أن ينعكس في شكل إبداع نوعي يضيف الى المنجز الأدبي بكامله. غير أن هذه الجوائز العربية، حتى تلك التي توصف ب «العالمية» منها، عجزت عن الترويج للفائز بها، وقصرت في الدفع بكتبه وأعماله إلى مساحة واسعة من القراءة. سيتم فقط تداول اسم الفائز لأيام قليلة، ثم يعود إلى ما كان عليه، وسيحضر اسمه لاحقاً من غير أن يقرن بالجائزة التي حصل عليها، ما يعني أن تلك الجوائز، وفقاً لما يقوله بعض المثقفين، لا أهمية كبيرة لها ولا قيمة معنوية يمكن أن تضفيها على الفائزين بها، عدا المردود المادي. معايير هذه الجوائز واختيارات الفائزين بها، تظل محل جدل مستمر، وما يدور في كواليسها يوفر بيئة «مثالية» لازدهار النميمة الثقافية وتفشي الأقاويل على اختلافها. وغالباً ما يتم الإجماع على عدم وجود أية معايير صارمة، وترد الاختيارات إلى أهواء لجنة التحكيم وأمزجة أعضائها. وما يؤخذ على هذه الجوائز، في رأي بعض المهتمين، بحثها عن «كبير يشيلها»، فلا تعود أهمية الجائزة الى قيمتها المعنوية ولصدقيتها، إنما للأسماء الكبيرة التي حازتها، وبالتالي فهذه الجوائز تختار المكرسين والمشهورين إعلامياً، ونادراً ما تفاجئ المهتمين بذهابها إلى كاتب مغمور بعيد من الأضواء، وإن كان كبيراً. وأذكر هنا أنه في إحدى دورات جائزة خليجية، قيمتها المادية تعتبر ثروة فعلية، نالها كاتب كبير لم يكن كتابه يستحق الفوز، سألت أحد أعضاء هيئة هذه الجائزة عن الدوافع وراء منحه، فأقر بأن الكتاب ضعيف، وصرح قائلاً: «كنا نبحث عن شخصية كبيرة تشيل الجائزة». ولم تسلم جائزة الرواية التي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة في مصر من الأقاويل، فتردد على هامش ملتقى القاهرة للإبداع الروائي الذي عقد أخيراً، أن ذهاب الجائزة إلى الروائي الليبي إبراهيم الكوني كان مدبراً أو مقايضة، رابطين بين فوزه وقبول الناقد جابر عصفور بجائزة القذافي، ذات القيمة المالية الكبيرة، على رغم أن جابر عصفور أنقذ الجائزة، وفقاً لبعض المثقفين، بقبوله إياها، بعد أن كانت مهددة تماماً بالفشل، عقب رفض الكاتب الإسباني خوان غويتسلوا المدوي لها، ولا يزال بعض المثقفين يتساءل: ما الذي يضطر ناقد ومفكر في حجم جابر عصفور إلى الموافقة على نيل مثل هذه الجائزة؟ لكن الآن يشاع أن طابوراً طويلاً من الأدباء العرب «الكبار» مستعدون لها وينتظرون دورهم لنيلها. أما بالنسبة الى الكوني فهو كان منافساً قوياً للراحل عبدالرحمن منيف، الذي فاز بجائزة الرواية في دورتها الأولى، وطبيعي أن يحوزها، فإنجازه الروائي فريد ويستحق جوائز كبيرة. ومثلما تتهم هذه الجوائز بالفساد والشللية، فإن الكتاب والمثقفين أنفسهم في رأي بعضهم بعضاً فاسدون ولا موقف لهم، فحين تذهب الجائزة إلى أحدهم تكون نزيهة ومعاييرها صارمة، أما إن ذهبت بعيداً فهي غير منصفة ولا أهمية لها. هيئات هذه الجوائز، من ناحية أخرى، يعن لها أن تعتبر النقاش والإشاعات وحتى الآراء الموضوعية التي ترافق إعلان الفائزين، تصفية حسابات وأمراً لا يخلو من الحسد والغيرة أيضاً، فلا تحاول، وفق البعض، أن تفرق بين ما يمكن أن يندرج في إطار النميمة الثقافية، التي تهدف إلى النيل من سمعة الجائزة ومن الفائز بها، ووجهة النظر التي ترغب في تعديل مسار الجوائز إلى الوجهة، التي تعتقد أنها صحيحة، وبالتالي لا تسعى هذه الهيئات إلى التطور وتوخي الصدقية عبر الانحياز إلى صرامة في المعايير، وكأن جل ما يهمها أن ينال الجائزة كاتب كبير، ليضفي عليها جزءاً من شهرته وأهميته. ولئن يوجد هناك من يعتقد أن هذه الجوائز لا تذهب في عدد من دوراتها إلى من يستحقونها، فإن تأثيرها في الأدب العربي وكذلك إسهامها في نهضة ثقافية، سيبقى محدوداً أو في إطار التمنيات. إثراء المشهد الإبداعي وجود الجوائز الأدبية، يعني في رأي الروائي الكويتي طالب الرفاعي، «تكريماً للأدب والأدباء، واعترافاً بقيمة الأدب وأهميته في حياة الإنسان. وهذا يساهم في تسليط الضوء على أعمال أدبية بعينها، وكذلك يثير ويلفت انتباه المهتمين والقراء إلى كتّاب قد يكونون في بداية مشوارهم الأدبي، وقد يكونون بعيدين من أضواء الكتابات النقدية، التي تخضع لحسابات شخصية ومزاجية، ليست بالضرورة أدبية وفنية بحتة». ويقول الرفاعي، الذي خبر الجوائز الأدبية من داخلها، هو الذي رأس لجنة تحكيم إحدى دورات جائزة البوكر، إنه مع الجوائز في أي بلد كانت، وأيا كانت قيمتها المادية». ويلفت إلى أن وقوف دول الخليج العربي وراء عدد من الجوائز الأدبية «أمر حسن وطيب، ويدلل على اهتمام الدوائر والمؤسسات والنخب الثقافية في هذه الدول بفنون أدبية شتى، مما يغني المشهد الإبداعي العربي، بخاصة أن معظم هذه الجوائز، مفتوح على المشاركة العربية الواسعة من دون استثناء أو تميّز، مما يعطي الفرصة كاملة للمبدع العربي للمنافسة والفوز بهذه الجوائز». ويشير صاحب رواية «الثوب» إلى أن للأديب والكاتب العربي «أوضاعاً حياتية وإنسانية بائسة، بدءاً بسقف الحريات الواطئ والمتعسف الذي يخيم على معظم دول الوطن العربي، مروراً بأوضاع الكاتب العربي المعيشية الصعبة، انتهاء بعدم تفرغه لفنه. لذا، فإن وجود جائزة أدبية ذات قيمة مادية جيدة، وسمعة رصينة، هو دعم مهم للكاتب والإبداع العربي على حد سواء». من ناحية أخرى يوجد من المثقفين من يرى في الجوائز «امتداداً عضوياً لخطط «المؤسسة» ومرئياتها للفعل الثقافي، فالناقد السعودي محمد العباس يعتبرها «وسيلة من وسائل استدماج المثقف، أو استخدامه كأداة لتبييض صفحاتها (يعني المؤسسة الرسمية) الملطخة بعورات الرقابة والمنع والقمع، وصرف الأنظار عما ترتكبه من تقييد للحريات، ومحاربة الإبداع». ويقول: «عندما يتم الاصطلاح على تسمية أغلبها بالجوائز (النفطية) فهذا يعني وجود حالة من الارتياب إزاء نيات القائمين عليها، إذ لم تقتصر على الجهات الرسمية والمؤسساتية، بل تعدى الأمر إلى أفراد، مهمتهم التمسّح بالثقافي، وتزوير تاريخ حضورهم وإسهامهم المجتمعي والإنساني، خصوصاً أن المبالغ المادية المرصودة للمتسابقين تبدو خيالية ويصعب على المثقف المسحوق مقاومة مغرياتها»، مضيفاً أن من يقرأ السياق الذي تراكمت فيه خبرات الجوائز الثقافية العربية، «لا بد من أن يلاحظ تهاوي طابور طويل من المثقفين الذين قدموا أنفسهم ذات يوم كجبهة مضادة لكل ما هو رسمي أو مؤسساتي، لدرجة أنهم صاروا جزءاً من لعبة تعليب الوعي، وخيانة القوى المجتمعية». لكن صاحب «التاريخ الشفوي» يرى أن وجود هذا الكم من الجوائز «يكشف المشهد بمنتهى الوضوح على طبيعة حراكه، ويفصح عن توجهات الأسماء وحقيقة اشتغالاتهم. كما تقدم بعض الجوائز ما يمكن أن يسمى الدليل للقراء، حيث تتأتى عن النتائج المعلنة لأغلب الجوائز جملة من الأعمال المتنافسة، القابلة للاقتناء والمحرضة على القراءة، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى تنشيط حالة النشر وصناعة الكتاب، وحلحلة قوانين الرقابة، وحفر مسارات معرفية وجمالية يمكن تعميقها من خلال إجبار المؤسسة على الإقرار بأهمية الثقافة وضرورة إشراك المثقف في التنمية»، ما يعني في رأيه أن تداعيات الجوائز «أهم من الجوائز ذاتها».