«ماذا تقول؟». سألته ورحت أنظر إليه. كعادته مسترخياً في جلسته، مستمتعاً بالتنقل السريع بين قنوات التلفزيون. أكثر من عشر سنوات مرّت على زواجنا، أتمنى لو نمضّي سفراً ممتعاً في إجازة هذا العام. سأحاول جعل الأمر يختلف هذه المرة: «إلى أين تريدين السفر؟». سألني، وقبل أن أجيب أضاف بنبرة موحية: «الحديث عن السفر صار موضة بين الكويتيين». مسّتني جملته، لكنني لم أعلّق بشيء، فاستدرك قائلاً: «الناس في الكويت تتحدث عن السفر أكثر مما تسافر». كنا قد انتهينا للتو من الغداء، وانتقلنا إلى صالة التلفزيون. لا أحد سوانا أنا وهو... ديمة وسعد ما زالا في المدرسة. كل يوم بعد الغداء يختار المقعد نفسه، يرمي بجسده، ويسرع باختطاف جهاز التحكم بقنوات التلفزيون، وكأنه يسابق شخصاً غير مرئي للوصول إليه. نبست أخاطبه: «لنرتّب سفرنا باكراً هذا العام، نحن في منتصف شهر أيار (مايو)». وداخل الرجاء صوتي: «أرجو ألا نتأخر كما في كل مرة». أعرف عادته بكسله بعد الغداء وارتخاء نظرته. استمر يتنقل بين القنوات الفضائية، ويلتفت إليَّ قائلاً: «الحر والغبار لا يُطاقان، لنسافر إلى بلد بارد». فرحت باقتراحه، ورحبت قائلة: «إختر أي مكان وأنا والعيال موافقون». «طيب». رمى كلمته بمعنى انتهى النقاش. مرّت فترة صمت بيننا. لا أدري ما الذي يمتعه بالتنقل بين القنوات الفضائية... ذبلت عيناه أكثر وانسدل جفناه. بقيت أنتظر جملته، وما لبث أن نهض مثقلاً بنعاسه: «سأنام قليلاً».و«السفر؟».تحرشت بنعاسه، فدمدم مشوحاً بيده: «بعدين، بعدين». بقيت وحدي. نظرت الساعة أترقب وصول ديمة وسعد. التلفزيون يبثّ أغنية أجنبية لامرأة تتلوى. خطرت لي نقاشات وخلافات السفر التي تتكرر بيننا في كل عام، لكنني أسرعت أبعد الهاجس، نهضت متجهة إلى المطبخ، لتفقد غداء الأولاد مع الخادمة. «جنون». نفخ ضيقه، وأكمل شكواه: «قيادة السيارة أصبحت مزعجة». كنتُ جالسة إلى جانبه في طريق زيارتنا الأسبوعية لبيت أخيه الأكبر. وكان متذمراً من: الزيارة، وحرارة الجو، والإشارة الضوئية الحمراء، وازدحام الطريق، ومحطات الإذاعة، وطريقة قيادة بعض السائقين. «أين يمكن أن نسافر؟». خاطبني، وتشاغل بتغيير محطات الراديو، قلت: «أنتَ اقترحت بلداً بارداً». وسكتُّ لثوان منتظرة ردّه، ولأنه ظل ساكتاً قلت: «المهم ألا نتأخر فترتفع أسعار التذاكر، وتصعب الحجوزات». في أحيان كثيرة أعجز عن تفسير نوبات سكوته... بعد برهة قال: «اطمئني لن نتأخر». وتحرك بالسيارة لحظة تغيّر لون الإشارة الضوئية. *** «أفكر بالسفر إلى بلد ما سبق لنا رؤيته». بعث جملته ونحن أمام شاشة التلفزيون في غرفة نومنا، ممسكاً بجهاز التحكم. والتفت يسألني: «ما رأيك بالسفر إلى الهند؟». أعجبتني الفكرة، فأسرعت بالرد: «الهند بلد العجائب، ستكون سفرة مختلفة». ولأنه راح يصغي إليَّ أوضحت: «مؤكد أننا سنرى عالماً عجيباً، وسيفرح الأولاد». تخيّلت زيارة «تاج محل»، وخطرت لي الحُلي والملابس، وشوارع الهند وساحاتها المزدحمة. فأعدت عليه: «أرجوك لا نتأخر أكثر، بدأت إجازة الأولاد، وهجم حر الصيف ورطوبته علينا». «غداً أتصل بمكتب السفريات وأرتب الحجز». قال بصيغة من حَسَمَ الأمر، وأتأكد منه قلت: «سنسافر هذا العام من دون تأخير؟». بلع جملتي ساكتاً، راح يقفز بين قناة فضائية وأخرى، مردداً: «برامج وأفلام التلفزيون مكررة ومملة». *** كنتُ أراجع عيادة طبيب العيون، حين اتصل بي: «الجو في الهند حار ورطب، لماذا لا نفكر ببلد آخر؟». حاذرت أن أرفع صوتي بين المراجعين، قلت له هامسة: «لنسافر إلى سويسرا». ظل ساكتاً فأوضحت: «ما سبق لنا زيارتها، كما أن الجو بارد». «حسناً، سأتصل حالاً بمكتب السفريات». قال جملته بصيغة أشعرتني بجديته، وفي الوقت ذاته، أشارت إليَّ سكرتيرة الطبيب. فاستأذنته: «سأدخل على الطبيب». *** «لماذا لا نحجز من طريق الإنترنت». استوقفني بينما أنا ألتقط حقيبة يدي، أهمُّ بالخروج إلى سوق الجمعية، وأكمل: «مكاتب السفر تأخذ عمولة، نحن أولى بها». ضايقتني مراوغاته وتأجيله. ولحظة التقت نظراتنا، دفعت: «أرجوك، احجز بأي طريقة». «على درجة رجال الأعمال أو السياحية؟». قاطعني، فتحيرت بماذا أردّ، لكنه أسرع يسألني: «ما رأيك بالسفر إلى المغرب وإسبانيا». «مو معقول!». أفلتُ صارخة والضيق يجوس في صدري. ولأن نظراتنا التقت ثانية، أخبرته: «البارحة انتظرك العيال، ليتكلموا معك بخصوص السفر». وحمل صوتي هواجسي: «لا داعي لمزيد من النقاش والتأجيل الممل، اختر أي بلد ولنسافر». «سأرتب كل شيء». كرر جملته التي أكره وعاد لمشاهدة التلفزيون. ولحظة خطوت مبتعدة سمعته يقول محدّثاً نفسه: «مئات المحطات الفضائية، وجميعها بائسة». فكّرت لثوان بالرد عليه، لكنني عدلت وأكملت طريقي. *** كنتُ جالسة أمام شاشة الكومبيوتر في مكتبي، أتنقل بين مواقع شركات الطيران وحجوزات الفنادق. جاءت إليَّ حسرة ديمة وسعد وضيقهما بالتأجيل. دار في بالي ان أتولى الأمر وأنهي الموضوع. ومن دون تردد اتصلت به في مقر عمله: «إلى أين تودّ أن نسافر؟».شعرت به يستغرب سؤالي المباغت، فأخبرته: «أنا على «النت»، وسأحجز التذاكر». «أجّلي الموضوع والنقاش لحين عودتي إلى البيت». اعترض معبراً عن رفضه، لكنني قاطعته: «سأرتب كل شيء باستخدام بطاقتي البنكية». تسربت الحدة إلى نبرته: «انتظري عودتي». «إلى متى ننتظر، شهر حزيران (يونيو) شارف على الانتهاء؟». نفخت بضيقي، لكنه أسرع ينهي المكالمة، فبقيت السمّاعة قرب أذني تُصدر نغمة متكررة. وأهمس: «الإنسان لا يتغيّر». *** كعادتنا في خروجنا الأسبوعي، تناولنا القهوة مع الأولاد في مقهى «ستارباكس» في مجمع «الأفنيوز». ظلت ديمة طوال الجلسة تنظر إليَّ، كانت قد حدّثتني برغبتها السفر إلى سويسرا، وفي لحظة هدوء بادرته: «بابا، متى نسافر؟». وكمن كان يتوقع السؤال، ردَّ عليها:«أنا وماما سنرتب كل شيء». «متى؟». أرسلت سؤالها بحرقة قلبها وضيقها، وظلت تنظر إليه، لكنه غيّر الموضوع قائلاً: «القهوة لذيذة هنا» حولت ديمة نظرتها المستغربة إليَّ، فتحرك الأسى في قلبي. في طريق عودتنا إلى السيارة اقترب مني، ونبّهني صوته: «مع أننا في فصل الصيف، إلا أن المجمع مزدحم بالناس». فهمت مرمى جملته، لكنني تعمدت التجاهل، فواصل حديثه: «المجمعات التجارية في الكويت توفر للمتسوقين كل «الماركات» العالمية». ويرمي بسؤاله كأنه يكلم شخصاً آخر، قال: «لا أدري ما الذي يدفع الناس إلى السفر؟». توقفت ناظرة في وجهه، ومن دون تفكير أجبته: «سأسافر أنا والعيال». أطلّت بعينيه تلك النظرة الكريهة، فقلت مؤكدة: «نسافر وحدنا إلى أي مكان». وأتركه في موقفه، أمسكتُ بيد ديمة وخطوت مبتعدة. * قصة من مجموعة تصدر قريباً بعنوان «سرقات صغيرة»