معرض جديد للنحاتة ميراي حُنَين دشنت به غاليري جانين ربيز صالتها الجديدة الكائنة في الطبقة السفلية من المبنى نفسه (الكائن في الروشة) للغاليري السابقة أي للمنزل الذي كانت تقطنه الراحلة جانين، بعدما حولته ابتنها ندين بكداش منذ العام 1993 إلى غاليري تكريماً لذكراها. هذه الصالة التي تم هندستها خصيصاً، على مستوى من المهنية والأناقة والبساطة في توظيف الفضاء الداخلي، كي تحمل كل مواصفات المعاصرة، تشير إلى نقلة نوعية في الأفكار والطموحات والتخطيط لمعارض ذات طابع اختباري مفتوح الأفق. تكنّ ميراي حُنَين الإعجاب للأعمال ذات الأحجام الكبيرة المحملة بالرموز، كما تتميز بتقنيتها ورؤيتها ومعالجاتها لأنواع الخامات، لا سيما في ما يتعلق بسطح الكتلة البرونزية التي تجترح فيها أنواعاً من الملامس النافرة والطي والثنايا. وفي معرضها الجديد تستنبط أفكارها ما بين التعبير التجريدي والتشخيص، وقد غلبت على أعمالها مادة البرونز بحلتها المصقولة وغير المصقولة، فضلاً عن مادة الريزين مع بودرة الرخام. وسادت فيها الموضوعات الإنسانية التي ترتدي معاني وقيماً ورموزاً مستمدة من الأساطير، التي ميزت منطقة الشرق، من اليونان إلى فينيقيا وصولاً إلى إيطاليا. ولئن كانت الأحجام الكبيرة تفرض نفسها في الفضاء المتعدد البعد، فإن القطع الصغيرة التي تعالج ثنائية الرجل والمرأة أو جماليات قوام المرأة منفردة بنفسها، بين جلوس وانحناء ورقص، فهي تعبر عن الاختصارات الخطوطية في الأسلوب والإيهامات بالحركة وتقاطعاتها، وكيفية قطف الأشكال في تكاوين متلاحمة ومتنابذة. غير أن أهم ما طرحته ميراي في معرضها الجديد يتمثل في القطع الكبيرة التي حملت عناوين دالة على مغزاها الأسطوري وهي: أوروب وأيكاروس وأراكنيه ودوكاليون وبيرا. مزجت ميراي بين النحت وفن التجهيز، في قطعة ضخمة مركزية أعطت عنوانها لكل المعرض، حملت اسم «تحولات». والعبارة مقطوفة من نص لأوفيد، يتحدث فيه عن شخصية أسطورية في التاريخ اليوناني هي «أراكنيه» في صراعها مع أثينا» آلهة الحرب والفنون. وأراكنيه التي ذاع صيتها في فن صناعة النسيج في مختلف أقطار آسيا الصغرى، تتحدى أثينا في مواجهة درامية تلاقي على إثرها حتفها خنقاً بين الخيوط المعقودة حول عنقها. وقد شبّهت ميراي شخصية أراكنيه بالعنكبوت التي تصنع من الخيوط دوامات فضية تحوك منها بيوتاً واهنة، في نوع من القدرية المرتبطة بالأنثى التي تمثل طابع الإنتاجية والصناعة والفن. في هذا العمل تبدو ميراي على تماس مباشر مع منحوتة لويس بورجوا (فنانة فرنسية- أميركية من عائلة تعمل في النسيج: وهي رسامة ونحاتة) «العنكبوت الأم»، وقد رمزت بورجوا من خلالها إلى معاناة أمها التي كانت تعرف خيانة زوجها وتظل تنسج. بينما ربطت ميراي، بين أراكنيه التي ماتت بحبال نسيجها وبين العنكبوت، لذا أعطت العنكبوت قوام امرأة حيث تتناسق الأرجل المتوزعة دائرياً حول جسم محوري وبين الدوائر المتشابكة على الحائط المصنوعة من سلاسل وخرز ومزينة بحروف مثل قطعة حلي، لكن الفكرة لم تبق كلياً ضمن الحيّز التعبيري المرجو، بل ذهبت إلى زينة خارجية على رغم أنها متصلة ظاهرياً وعضوياً بالعين السحرية المتمركزة في خاصرة أراكنيه. ويتجلى التعارض الحركي أكثر ما يكون في تمثال خطف أوروب من زوس (كبير آلهة اليونان) الذي يتمثل لها على شكل ثور ابيض. وهذا التعارض يتم في اتجاهين متعاكسين ونقاط متعددة للارتكاز، في حركة جامحة نحو الفضاء. فالأجسام مشدودة إلى أقصى بما يوحي بالخفة والتوثب. أما ايكاروس الذي يناديه حلم الطيران نحو المطلق، فتجسده ميراي بأجنحته الذهبية يصارع في انطلاقة عملاقة للجناحين العاريين، لأن حب ايكاروس للنور أضحى رمزاً للحقيقة وغلو المغامرة ولو كانت مهددة بالسقوط. تستحق أعمال ميراي حُنين المشاهدة والتأمل والتساؤل حولها، وهي فنانة تعيش وتعمل في باريس (منذ العام 1979)، حيث حققت العديد من النجاحات والمعارض في فن النحت والتجهيز. زينت أعمالها بعض الساحات العامة في فرنسا، كما دخلت في مقتنيات بعض الهيئات الخاصة والرسمية. وهي فنانة مولعة بالمواد، تعرف كيف تقطف الأحداث وتواكب مجريات المعاصرة، إذ أنها كثيراً ما تحاكي الواقع من طريق المواربة، حيث تكمن حرية التشكيل وجرأة استخدام الخامات الجديدة من اجل اقتحام الفضاء - المكان.