أسرع بإغلاق النوافذ والأبواب والفتحة الصغيرة التي تخرج منها المياه وبدأت المطاردة.. - هذه المره لن يستطيع أن يفلت من قبضة العدالة! رفع إناء الزهور وضربه لكنه لم يحقّق الهدف...عاد ثانية وبشكل جنوني، أمسك صحن السجائر والحذاء وإبريق الشاي ورمى بتلك الأشياء نحو الجرذ.. لكنه لم يصبه، وفشل في النهاية، بعد أن خلّفت هذه المعركة خسائر مادية لا بأس بها. كان الجرذ يقفز في كل مرة معلناً نجاته من الموت، يصدر صيحة انتصار ويعود مرة أخرى ليقفز هنا.. وهناك.. فوق الطاولة والسرير.. وهرعت الزوجة من الخارج: ما بك يا رجل، ماذا أصابك،هل جُننت؟! فتحت الباب، فقفز الجرذ هارباً، ماراً من بين قدميها.. ذُعرت فجأة وسقطت على الأرض وهي تضحك وتصيح: إنه الجرذ...إنه الجرذ.. أجابها الزوج: هل شاهدت مَن هو المجنون؟ من شروط الصيد يا زوجتي الهدوء والمطاردة بصمت، لو لم تفتحي الباب لكان صاحبنا في قبضة يدي. وضحك الاثنان معاً ضحكات طويلة مرحة.. *** كان الليل لا يزال مرخياً ستاره الثقيل على جميع الأشياء.. همس بأذنها وهو يقترب منها: هل تسمعين حركة في المطبخ؟ - نعم، لعله الجرذ..؟ نهض بحذر، ودون أن ينتعل الحذاء، تقدّم من باب المطبخ، فتحه بهدوء وأشعل النور، سمع حركة وشيئاً أسود يدخل بين الأواني والأوعية المبعثرة، وسمع صوت زوجته تنادي: هل صحّ ظني يا زوجي الحبيب؟ لم يجبها، تقدّم أكثر، فتح الدرج وتناول المصيدة بهدوء وثقة، ونادى زوجته بصوت خفيف: أين الخبز يا امرأة؟ - هل أنت جائع؟ ما أكبر بطنك «يا زلمي»، لا بأس سأعاونك في إعداد الطعام.. اتجهت نحو المطبخ، قال وهي تدخل: ما أبردك يا امرأة، دائماً أنت هكذا، قولي لي الآن أين الخبز؟ أنا لست جائعاً، وإنما الجرذ يطلب ذلك، سنطعمه خوفاً من أن يقضم الثياب مرة ثانية، فأنا خائف على ذلك القميص وتلك السترة الجديدة، فهو لا يعرف كم شهراً صبرت حتى ظفرت بهما، هذه المرة سيكون طعامه من نوع آخر. - ما الذي تقصده بنوع آخر؟ - انظري.. بالأمس جلبت هذه المصيدة، أنظري ما أجملها، هل تجربينها؟ قالت مبتسمة: جرّبها أنت، فأصابعك خشنة كالخشب. نظر إليها مُظهراً ابتسامة لطيفة: لا..لا.. سيجربها الجرذ أولاً، فهو أخشن مني ومنك. أطفأ النور، وعادا إلى السرير بعد أن وضعا الخبز فوق المصيدة، وراحا ينتظران بقلق وصبر شديدين.. وطال الانتظار.. وطال معه الصبر والقلق.. سألت الزوجة وهي لا تزال تنظر إلى السقف وكأنها تقرأ أفكارها مكتوبة في الأعلى: ترى هل له أصدقاء؟ أجابها الزوج محاولاً أن يخفّف من حدة صوته: لا ترفعي صوتك، من المحتمل أن لا يكون وحده، ولكن صيده سوف يترك فراغاً داخل جماعته من الجرذ. تابعت الزوجة متسائلة: وهل له أولاد وزوجة؟ لو كان ذلك لاقترفنا بصيده جريمة بحق عالم الجرذ، ألا توافقني على ذلك؟ فمن سيطعم صغاره وزوجته بعد موته؟ - نعم أنا أوافقك على رأيك يا سيدتي، ولكن هل تستطيعين أن تفهميني وتقولي لي، من قال لذلك الجرذ اللعين أن يقضم بنطالي ويأكل قسماً من قميصي.. ها... من قال له ذلك؟ لو أنه لم يفعل لتركته بحال سبيله. أجابت زوجته: الجوع يا زوجي، نعم الجوع هو الذي يدفعه لفعل كل ذلك، يقضم ويأكل.. ويقفز ويهرب لكي يبقى حيّاً، أليس كذلك؟ ووقع الزوج في شباك القلق، وراحت أفكاره تسبح وتتنافر لإيجاد حل لهذه المشكلة: إما الثياب وإما الجرذ. نهض شارد الفكر، وجلس بجانب السرير ينظم أفكاره، ويحاول أن يجد حلاً مناسباً، بحيث يحافظ على الثياب وعلى حياة الجرذ في وقت واحد. ومرت برأسه فكرة سريعة، فقال لزوجته: ترى لو نقلنا ثيابنا إلى الغرفة في الطابق الثاني فهل سيلحقنا الجرذ إلى هناك؟ - لا أعتقد. - إذن دعينا نأتي بالمصيدة، قبل حدوث أذى للجرذ. قالت الزوجة وهي تنهض: لنبدأ.. وسارت بجانب زوجها إلى المطبخ.. فجأةً، سمعا المصيدة تطبق بشكل مخيف.. ركضا نحو الباب، أشعل الزوج النور.. كانت دماء حارة تسيل من رأس الجرذ صابغة الأرض بلون أحمر، اقترب الزوج، رفع المصيدة، كان الجرذ يتخبّط ومن ثم توقف عن الحركة بصمت حزين، تنهدت الزوجة بألم: آه منك يا زوجي، لقد تأخرنا! أجاب الزوج وهو يرمي بالمصيدة بعيداً: لا تتأسّفي يا زوجتي، فبذهابه سوف يأتي المئات... وموت جرذ لا يعني شيئاً في عالم تملؤه الجرذان. * قاص وكاتب سوري.